الهند
كانت الهند المرحلة الأولى من حياة طويلة من الأسفار والرحلات وقد قطع بادن باول عهدا لامه بان يدون لها, في يوميات متتابعة ,كل ما يهمها معرفته من إحداث تطرأ عليه ومن حالات يتقلب فيها, في حياته الجديدة
وهذه إحدى رسائله الأولى لها يقول:
هاأنذا ابدأ بما وعدتك به من كتابة يومياتي, اعلق عليها بما يبهج النظر من رسوم وصور ,هل أفلحت , وهل وجدت إلى ما ابغي من مسرتك السبيل والمنهج؟ أن ما كتبته إلى الآن يبدوا لي مقطعا ,مجموعة من شتات, ناقصا, ومع ذلك فقد توفرت لي فيه لذة لم أكن لانتظرها, إذ شعرت بأنك حاضرة بجانبي في حوادث الأيام, تسانديني فيها, وتشاركينني في عيشها, وهذا ما يضاعف في عيني من قيمتها , ولعلي من شأنها ,وأنها أيضا لفرصة للتحدث معك انتهزها ما استطعت واملأ بها فراغي في عمل مفيد ممتع “
وجاءت هذه الرسائل , بما فيها من وصف وتصاوير نواة للكتب الذي أصدره فيما بعد بعنوان: ذكريات عن الهند”
عندما وصل بادن باول إلى الهند, لم تكن حالة الجندي فيها بالتي يحسد عليها, فلقد كان أكثر الأحيان يترك وشأنه, ليس من ينظم له أوقات فراغه, وليس من يسعى له بأسباب الترفيه النافع, والتسلية الرفيعة
وكان اللورد روبرتس, قائد الفرقة, أول من أعار هذه الناحية من حياة الجندي الاهتمام اللازم, فقام بالمساعي في سبيل ذلك, أشرك فيها بادن باول ,فكان أول اتصال بين رجلين سوف يرتبطان فيما بعد بصلات من الود المتبادل تعود على البلاد بأوفر الفوائد, وكان روبرتس لا يفتأ يقول: ” الجندي رجل, له مثلنا عقله وقلبه, وليس آلة صماء لا تشعر ولا تعي”
واليك ما كتبه بادن باول عن أول التقاء له به:
“كنت يوما في حفلة راقصة, وذلك في أول عهدي بالجندية وبالهند, وبعد جولة من الرقص ذهبت إلى المقصف لأخذ بعض المرطبات, ولما كنت اجهل الهندية لم استطع أن اعبر للخادم عما أريد, وإذا بقائد شاب قصير القامة, يهب لمساعدتي, ثم ينتهي مع بقوله, عليك لكي تحول قامتك في الهند إلى متعة, أن تنكب على تعلم الهندية, في أسرع وقت, ولسوف تجد لذة لا تضاهيها لذة في التحدث مع الهنود بلغتهم” فشكرته وانصرفت وإذا به يرسل إلي في اليوم التالي احد الترجمة الهنود ,ليعلمني الهندية”
كان ما يتقاضاه الضابط البسيط من راتب في ذلك الوقت زهيدا, فلم ير بادن باول أن يلجأ إلى أمه أو إلى إخوته, يكون عالة عليهم, ولذلك عزم على بعض التقشف في عيشه, مكتفيا فيه براتبه الضئيل فكتب يقول:” لقد انصرفت عن التدخين, واقللت من شراء النافل الزائد من الطعام والشراب, فتوفر لدي بذلك من المال مبلغ اصرفه في وجه أفضل”
وانصرف إلى الكتابة في الصحف ليربح بقلمه ما يسد به بعض حاجاته, فكانت الأشغال هكذا تتراكم عليه, تحتكره أناء الليل وأطراف النهار, تملأ من يومه كل ساعات الخدمة الرسمية, وتملأ من يومه أيضا كل أوقات الفراغ, وكانت كثيرة, وكانت للجنود والضباط مضيعة للوقت, ومجلبة للضجر, ومبعثا لشتى الرذائل والعادات وبذلك تفشى الشرب, وتفشى القمار,وساهم بادن باول في التمثيل والغناء والموسيقى والتأليف والرسم واللعب, وكان له فيها جميعها مواهب وعطايا فريدة قدرها له رفقاؤه قدرها, وأفادوا منها, واستغلوها ما استطاعوا حتى قال احدهم عنه:” انه أثناء الوظيفة اشد ما يكون جدا وصرامة ,أما بعد ذلك فهو خليق بكل ضروب التلهي والعبث ,حتى الجنون”
كانت الأعوام الأولى من الجندية شاقة صعبة على بادن باول وكان عليه أن يتمرس في مهنته, ويتدرب على أساليبها, ويطلع على أسرارها, لاسيما وقد فآته أن يبدأ بالمدرسة الحربية, وأنها لمهمة شاقة حقا, تتطلب منه صرف القوى الجسمية, وبذل الوقت والجهود حتى أصابه الإعياء فكتب في ذلك يقول:
” كنت في السنة الأولى أتخم بالأدوية المتنوعة, أداوي بها الكبد, والمعدة, والحميات, وكانت معالجتي للحمى على الصورة الغربية التالية: كنت اقلل من الطعام, وأكثر من الشمبانبا واغطس مدة عشرين دقيقة في حوض من الماء الحار, بينما على راسي وابل من الماء البارد
ثم أجرع من زيت الخروع جرعة كبيرة, اذهب بعدها إلى النوم, وأنا مرتد الثياب الصوفية الكثيفة وفي اليوم التالي الزم فراشي ,وابتلع من أقراص ألكينا عددا , فلا تلبث الحمى أن تزول, أما أمراض المعدة والكبد, فلم ينجع فيها الدواء, حتى ضعفت , ووهنت قواي, وبت أخشى ما هو شر من ذلك”
وجاء أمر الطبيب بالاستراحة التامة, لمدة طويلة, فعاد إلى إنكلترا ,على ظهر الباخرة سيرابيس ,تلك التي أقلته, قبل سنتين ,في أول رحلة له عبر البحار, من إنكلترا إلى الهند
وفي إنكلترا اخذ ينتجع الصحة على طريقته, بمزاولة أعمال جديدة , وهوايات جديدة وقديمة تنفحه القوة والعافية, دون أن تذهب بأيامه سدى
وانتهز فرصة وجوده في الوطن ليعيد اتصالاته بذويه, وبأصحابه, ومعارفه – وما أكثرهم – يعزز بينه وبينهم الصلات,ويوطد الصداقات, ويشدد ما كان منها متراخيا, ويربط ما كان منها مقطوعا, وهذا دأبه طوال حياته, فكان من الذين لا يقطعون بأحد صلة, مهما رق حبلها ,وكان يحرص كل الحرص على الوسائل التي كانت تنهال عليه من كل جانب فيجيب عليها كلها, يجد لها الفرص لينتهز حتى أصغرها, ليسطر لهذا كلمة ولذلك تحية, تذكي نار المودة, وتبعث الذكريات
ولم ينس مهنته وما إليها, فتعلم الرماية في إحدى مدارسها, بلغ فيها في أخر الدورة درجة ممتازة كما ومارس على الهامش فن التمثيل والأداء يحضر لأهم الممثلين ,ويزوق أرقى المسارح , يستلهم من الأدوار, ومن الزينة, ومن الديكور, ومن المكياج ,يكنز منها ما يستطيع للأيام المقبلة في الهند وفي أفريقيا في الجيش وفي الكشفية
وقعت أثناء إقامته في إنكلترا حوادث هامة في أفغانستان, فلقد قتل الأفغانيون المقيم البريطاني في كابول مع كل أفراد بعثته, ونشبت على اثر ذلك ثورة انتهت,بعد مناوشات هنا وهناك, بانكسار الإنكليز في موقعة “مايوند” وبعقد معاهدة للصلح ,تعهد بموجبها الإنكليز بالجلاء على مراحل عن كل البلاد الأفغانية
ولما عاد بادن باول بعد حقبة من الاستراحة, إلى الهند, كان فوجه قد أرسل إلى أفغانستان, فاضطر إلى الالتحاق به على جناح السرعة وقد كتب لامه كلمة عاجلة عن بلاد الأفغان وسكانها قال:
” بلاد قاحلة جرداء, كأنها الصحراء الكبرى, مع مزارع ضئيلة تمتد على شوطئ الأنهار النادرة, لكن المناخ صالح ,والرجال أشداء, وهم طويلو القامة, طويلو الشعور, معكوفو الأنف, يرتدون ثيابا فضفاضة بيضاء, وهم إلى سفك الدماء سريعون, ولقد فقدنا بعض خدامنا من الآهلين الموالين, أرسلناهم في مهمة إلى القرى فلم يرجعوا, وذهبت بحاثنا عنهم أدراج الرياح, وأكثر الظن أن سكان القرية المجاورة قد فتكوابهم”
ولنا في هذا الحقل حوادث كثيرة طريفة, وهناك ما كتبه عن احدها: ” في ليلة عاصفة أبرقت فيها السماء وأرعدت, أفلتت جياد المعسكر من مرابطها, وراحت تضرب في الجبال مروعة, شاردة , لا تلوي, وقد استطاع الجنود إدراكها والعودة بها, إلا واحدا منها, فلم يقع له احد على اثر ولما كنت شغيفا بعلم الفراسة ,أتمرس في اقتفاء الأثر, وتتبع الخطى, واكتشاف الأقدام, رأيت الفرصة سانحة لاختبار معارفي في هذا العلم لأرى مبلغ ما بلغت منه, فركبت جوادي” ديك” ورحت ابحث عن ضالتي, حتى وجدت أثار حوافر جواد ذهب ينهب الأرض نهبا, فتعقبتها, إلى أن بلغت بي إلى مرتقى جبل كثير الصخور, وعر المسالك لا سبيل إلى اقتحامه على ظهر الجواد, فترجلت ,وتركت”ديك” وقد كنت دربته على مثل هذه المواقف فهو يظل في مكانه لا يتحرك منه قيد خطوة, إلى أن أعود إليه, ثم أخذت أتسلق الصخور, ولم البث أن رأيت الجواد الشارد ترتسم صورته على صفحة السماء, في ذروة الجبل,وبعد جهود شاقة وصلت إليه , فرأيته واقفا كالمبهور المرتاع, شارد النظر, يرتعش خوفا, وبردا, والدم يسيل من احد قوائمه, فلم أزل به تمسيدا وملاطفة حتى هدأ روعه, واطمأن فاخذ ينحدر معي الجبل في حيطة وحذر, إلى أن بلغت به المكان الذي وقف ” ديك” فيه ينتظرني, فركبته وعدت بالاثنين إلى المعسكر, فرحا بنجاح المحاولة ,وبلوغ الهدف”
بدأت أعمال الانسحاب والجلاء, كما نصت المعاهدة, وكان على فرقة الخيالة الثالثة عشرة, فرقة بادن باول, أن تحمي الأعقاب, فتنسحب بعد المشاة مباشرة, وكان المشهد, في تواجه الأضداد وتنافرها, لا يخلو من طرفة فكان الخفراء يتبادلون المواقف فما أن ينسحب الخفير من الإنكليز وقد ارتدى لذلك اليوم بزيه الرسمية, واعتلى صهوة جواده كأنه في عرض, حتى يقوم مقامه الخفير من الافغانين على فرص أصيل وقد ارتدى ألبسته البدائية المعتادة كأنه في موكب من الغزاة الاقدمين”
ولنترك الجيش ينسحب حسب الخطط المرسومة, ولنتكلم قليلا عن روسل قائد الفوج الثالث عشر للخيالة, وقد كان بادن باول يعترف له بالجميل, ويذكر دائما من له عليه من الأيادي البيضاء وقد وصفه في إحدى رسائله قائلا:
” لم يكن روسل بالرئيس الذي يتقيد بالقوانين والأنظمة المكتوبة تقيدا أعمى, سائرا عليها بحرفها وحذافيرها كغيره, ولم يكن ليهتم بالألفاظ والتعابير التي يصيغ فيها أوامره,ولكنه كان يرسل ،وهو في الميدان, النظرة السديدة الصائبة, يضع بها رجاله كلا في موقفة ومكانه , كما تقتضي الحالة, وليس كما ينص الكتاب, وكان يترك لضباطه المجال ليتحملوا مسؤولية أعمالهم, يظهر لهم بذلك من الثقة ما يثير فيهم الحمية ويلهب الهمم, وكان صادق الحدس سريع الخاطر, حاضر القرار, لا يترك الفرصة تفوته, ولا يتباطأ في تنفيذ أمر قد عزم عليه
ويجدر بالذكر أن روسل هذا كان يسير على غرار براون, رئيس مدرسة شارترهوس, في اعتبار الأنظمة ,وتفهم القوانين, فهي في نظره إنما جعلت لترشد وتلهم أكثر مما جعلت لتقيد وتكبل, وهو يدعو مرؤوسيه إلى تفهم أغراضها واعمل الفكرة والراوية فيها, وان استهدفوا أحيانا للخطأ , وقد وجد في بادن باول التلميذ الأمثل, فلم يترك فرصة إلا وانتهزها لتقليده المسؤوليات وإرساله في المهام الدقيقة , تاركا له وضع الخطط الملائمة لها, مفسحا له المجال ليبدي فيها ذكاءه وحيلته وكانت جولات الاستكشاف والاستطلاع, بما يكثر فيها من مباغثات ومفاجآت, وبما تستلزم من ذكاء وحيلة, خير ميدان لمثل هذا النشاط ,
وقد يكون روسل هذا أول من لفت أنظار ولسلي القائد العام إلى بادن باول فاتحا له بذلك باب التقدم على مصراعيه
ومن طرف ما جاء في رسائل بادن باول عن جولات الاستكشاف هذه التي كان يضطلع بها, الأسطر التالية:
“كان ذلك في مدينة كيتا, حيث جرت مناورات ليلية, عهد فيها إلى بعضنا بان يقوموا بدور العدو في تطويق المنطقة والتمركز حولها, ومهاجمتها بينما عهد إلى بعضنا الأخر وأنا منهم بان يستكشفوا مواقع العدو, واستحكاماته, ويستطلعوا على خططه ومقاصده, ويعودو عنه با الأخبار الوافية التي تمكن الحامية من الدفاع عن المنطقة ومن شن هجوم معاكس تدحر به العدو وتجليه عن مواقفه
كان حرس العدو, في أول الأمر على أتم اليقظة والاستعداد, فكشفوا أمر بعض الطلائع منا, وأسروهم, وردوا سائرهم على الأعقاب فاشلين, ثم توصل مع ذلك بعضنا على ما أردوا من الإطلاع على مراكز العدو وتحصيناته, وجمعوا عنه معلومات وافرة, ثم نسامر على كومة من التبن مستريحين, وبعد ساعات قليلة قرسهم البرد فأفاقوا , وأردت أن أتي بحركة تدفئني ولما كنت قد عرفت بمواقع حرس العدو, استطعت أن أتسلل إلى صفوفهم وأتغلغل داخل منطقتهم, فابلغ احد الحصون, ثم تتبعت بعض دورياتهم, فوقفت على أماكن التحشدات ومواطن القوى ولم أر خفراءهم على ما بدأ به من التيقظ والحذر, فلقد أغراهم سكوننا, فظنونا, بعد فشلنا الأول قد ولينا الأدبار, وقبل أن أعود بهذا الحصاد من المعلومات تركت منديلي في دغلة هناك, ثم تسللت راجعا إلى موقعنا وقد اخذ الأفق يبيض بنور الشفق
ولما اجتمعنا كلنا, في النهار لندرس الحوادث ونقدها, بحضور القائد خالج بعضهم الشك من إننا قد وصلنا إلى ما أدركنا من معلومات, عن طريق الاستكشاف الشخصي, وادعى العدو إننا لأعجز من أن نطأ بأقدامنا الأماكن التي ذكرنا, وقد بلغوا بها من التحصين ما بلغوا لكن لما أرسلتهم بطلب المنديل الذي تركته في الدغلة, سكت كل مقاوم ومعاند
غادر فوجه الهند, عام 1884 إلى إنكلترا بعد عشر سنوات من الخدمة فيها, إلا انه توقف وهو في طريقه إلى إنكلترا في أفريقيا الجنوبية التي كانت يومئذ في حالة من الغليان قد تنشأ عنها الحرب, وأراد روسل أن يستدرك الأمور, لاسيما وقد صدرت له الأوامر بان يكون على قدم الاستعداد, فبعث ببادن باول في مهمة استطلاع دقيقة , كتم سرها حتى عن أعوانه
وقام بادن باول بهذا المهمة أحسن قيام, شانه في كل مهمة استطلاع يرسل بها, فتنكر بهيئة مراسل جريدة جاء ليجمع لجريدته عن أحوال البلاد كل ما يستهوي السياح, فارجى لحيته, وارتدى من الألبسة مالا يلفت الأنظار, وراح يتجول هنا وهناك يتوقف في مزارع البوير , يستكشف أحوالهم, ويجمع من المعلومات عنهم وعن مسالك البلاد وممراتها الجبلية , ما لا غنى عن معرفته في حالات الطوارئ
وجره أيضا حب الإطلاع الذي نشأ عليه, إلى مالا شأن له بالحرب, وبالمهمة التي أرسل بها, فوقف على حياة البوير وطرق عيشهم, وعاداتهم وأخلاقهم, حتى كسب ودهم بما اظهر لهم من ميل وانعطاف ,كما انه صار يكن لهم كل تقدير واحترام
أن ما جمعه هكذا من معلومات لم يجد يومئذ من نفع, لان الحرب يومئذ لم تقع, وتابع الفوج طريقه إلى إنكلترا, بينما كان بادن باول, وقد منح إجازة ستة اشهر ويقضي أياما كما يحلم, مع بعض ضباط فوجه في جولة صيد وقنص في غابات أفريقيا البرتغالية الشرقية