أفريقيا
قضى بادن باول , بعد عودته من الهند, سنتين متتابعتين في إنكلترا يعيش عيشة الثكنات والمعسكرات, لا شائق ولا جديد, في تمرينات وتدريبات ومناورات ورسميات ما كانت لتروق رجلا مثله تواقا إلى المجالات الرحبة, والأفاق الفسيحة, والاستكشافات البعيدة ,في الغابات والجبال
ما كانت حياة النظام والقانون, في شدتها الحرفية, وقيودها الصلبة وفي حدودها من المكان والأشخاص, لتروق رجل المغامرات والمسؤوليات رجل الأخطار والأهوال, رجل الاستكشاف الجرئ والحيلة المبتكرة
وانتهز مع ذلك تلك الأيام الرتيبة الهادئة ليؤلف كتابه” مغامرات جاسوس” ولقد اختار له هذا العنوان ,على ما يثيره اليوم في الأذهان من نفور وكراهية ,ليدلل على مالا عمال الاستكشاف والاستطلاع من أهمية, وأنها لمهمة جديرة بكل جندي ,لما تتطلب من شجاعة, وتستلزم من قوى ,وتوفر من فوائد , والجندي إذ يقتحم في سبيلها الصعاب ويضطلع بالمسؤوليات الخطيرة ,يستكشف ,ويستطلع , ويفاجئ فيحبط خطط العدو, ويكشف عما يحيك من خدع وعما يبيت من مقاصد ,فانه ليخدم بذلك جيشه ووطنه أحسن خدمة, أما وان الحرب خدعة فان هذه لمن أفضل ما في الحرب من خداع
في مثل هذه المهام ذهب بادن باول أثناء ذلك إلى روسيا ليطلع على طريقة جديدة للاستكشاف من الجو بواسطة البالونات, فاستطاع أن يدخل مع أخيه , وهما متنكران, القلعة التي تجري فيها التجارب , ساعده على ذلك ما كان يسود البلاد يومئذ من جو للجاسوسية رهيب, لا يعرف المرء فيه من المتجسس ومن المتجسس عليه وقد يكون الرجل كليهما في أن واحد
وفي مثل هذه المهام أيضا ذهب إلى ألمانيا والى النمسا وزار ميادين حرب السبعين, التي دارت بين ألمانيا وفرنسا, يتفقد أماكن القتال, ويدرس خطط المعارك التي جرت فيها, باحثا عن أسباب فوز الألمان واندحار الفرنسيين
وفي عودته من مهام الاستطلاع هذه عرض عليه الجنرال هنري سميث خاله, أن ينضم إلى أركان حربه في بعثة إلى أفريقيا الجنوبية فقبل وساهم هكذا في الحملة على قبائل الزولو الثائرة وقد استهدف فيها إلى أخطار كادت يوما أن تودي بحياته
ولما عين سميث حاكما عاما على جزيرة مالطا, إستصحب معه إليها بادن باول أمينا للشؤون العسكرية, فبذل جهده في رفع مستوى الحامية ,ونشأ ناديا للجنود والبحارة ,يوفر لهم فيه أسباب التسلية والتثقيف وفي هذه الفترة من الزمن ظهر له كتاب ” صيد الخنزير البري” الذي لم يلبث أن أصبح الرفيق والمرجع لهواة الصيد والقنص
واخذ يسأم حياة الثكنات ,وقد ثقلت وطأتها عليه, فطلب أن يعهد إليه ببعض المهام الخارجية, فعين ضابط في دائرة الاستعلامات للبحر الأبيض المتوسط, وزار بهذه الصفة شواطئ دلماسيا, ساعيا لاكتشاف مواقع جديدة للمدفعية أقيمت حديثا في الجبال وزار مضايق الدردنيل على ظهر مركب تجاري , يستكشف التحصينات الجديدة إلى تقام على ضفتيه , وزار الألب النمساوي ليطلع على أساليب الحرب الجبلية
والتقت به يوما في الألب النمساوي فريزة من الضباط في إحدى ميادين المناورات الحربية, وما كان ليفلت من أيديهم لو لم يعمد إلى حيلة طريفة: فما أن رآهم مقبلين نحوه, ولا سبيل إلى الهرب منهم, حتى اخذ يرسم فلما اقبلوا عليه رأوه منكبا على الرسم يصرف فيه كل انتباهه, لا يلوي على شيء, وادعى انه فنان يجمع بعض التفاصيل والدقائق للوحة يرسمها بعنوان: بزوغ الشمس في الجبال, ولقد رأوا له من المقدرة والإجادة ما كسب به على الفور ثقتهم, فدعوه إلى تناول العشاء معهم, والى مشاهدة طرفا من المناورات الجبلية, التي كانوا يقومون بها, يتتبع معهم تطوراتها على المخطط الذي فتحوه بين أيديهم, وما أن انتهي النهار حتى كان قد وصل إلى كل ما يبتغيه من معلومات
لم تكن هذه المهمة العابرة ,على خطورتها, لتلهيه عن مستقبله, فرأى أن يستقيل من منصب أمين الشؤون العسكرية في مالطا ,ليلتحق بفوجه الثالث عشر للخيالة , يشترك معه في نشاطه, لاسيما في المناورات الواسعة التطابق التي تجريها الآن في ايرلندا, إذ ليس مثلها ما يحفظ للجندي روح الشجاعة والإقدام, ويكسبه القوة والمراس, وليس مثلها ما يبرز للعيان ما ينطوي عليه الضابط من صفات شخصية تميزه عن أقرانه
وهذا ما حدث لبادن باول في تلك المناورات, فلفت إليه أنظار ولسلي القائد العام, وقد وجده على ما يرغب ويتمنى من الصيفات, وصار منذ ذاك رجله, يعهد إليه بالمهمات الدقيقة, يترك له فيها المجال لذكائه وحيلته
واتته أول هذه المهام في أفريقيا, حيث كانت قبائل الاشانتي – التي تضمها اليوم دولة غانا – في ثورة لاهبة يقودها الملك برمبا, ولم تكن هذه بالثورة الأولى,فلقد اضطرت إنكلترا أن تسوق على الاشانتي طوال القرن التاسع عشر تسع حملات عسكرية, لكسر شوكتها وإخضاعها, ولم يتم لها ذلك إلا في عام 1901
وكان على بادن باول أن ينظم جيشا من القبائل الموالية يقودها في الطليعة, في عمليات استكشاف يشق بها الطريق, ويمهد السبيل, لتقدم الجيش النظامي وقد اختار لجيشه الطربوش الأحمر لباسا, كما اختار لنفسه القبعة العريضة الجوانب, التي عرف الكشاف بها فيما بعد في العالم كله, لم يكن ذلك منه للأغراب, بل للمنفعة ,فقد كانت خير ما يحمي به الضارب في الغابات والسهول رأسه من الأغصان الواطئة, ومن الشمس والمطر ..
وجاء تنظيمه للجيش على الصورة التالية, وقد قامت فيما بعد أساسا لفرق الكشافة: قسم الجنود إلى فصائل من عشرين, وضع على كل منها رئيسا جعله المسؤول عن المعدات والرجال وفكرة المسؤولية هذه لم تشق إلى العقول طريقها إلا بعد جهد جهيد, إلا أنها رسخت أخيرا في الأذهان, وقبل بها الجميع, فاتت العمليات معها على ما يجب من الدقة والوعي
والقوى الاستكشاف هذه الفضل في نجاح الحملة ,فقد استطاعت أن تبلغ العاصمة كوماسي فندخلها, دون أن يستطيع الملك منها مهربا, وانتهى الأمر بخضوع الملك, وإخماد الثورة, فعاد الأمن إلى البلاد, ولو إلى زمن
واتت بادن باول الترقيات, فأصبح برتبة عقيد وهو لا يزال في التاسعة والثلاثين من عمره
لم تمض أسابيع معدودات حتى استدعي إلى خدمة جديدة وصفها بعدئذ بقوله:” أنها كانت أجمل مغامرة قام بها في حياته “
كانت بلاد المتابلة تتخبط هي أيضا في ثورات لا تنتهي ,وهذه حملة القمع تبحر إليها بقيادة كرنكتون, يتبعها بادن باول رئيسا للأركان, مع فوج من المشاة يبلغ الخسمائة رجل
ونزلت الحملة في الكاب, ومنها توجهت بالقطار إلى مافكنج, ثم إلى بولوليو عاصمة المتابلة
وبدأ عمل بادن باول كرئيس للأركان شاقا مضنيا, فلقد كان يقضي الساعات في مكتبه يملي القرارات, ويصدر الأوامر ,ويسهر على الكبيرة والصغيرة لتنفيذ الخطط العامة, ولم يكن بأدق من البلاغات التي كان يذيعها على أعوانه,ولقد اخبر احدهم أن بادن باول أرسل له يوما بلاغا لا يتعدى الأسطر السبعة إيجازا, إلا انه كان يتضمن كل ما يقتضي تاركا له حرية التصرف في ما سواء
لم يكن بادن باول رجل غرفة ومكتب فحسب, انه كان بنوع خاص رجل الأفاق والأبعاد, وان لرجليه وناظريه من جولات في رحاب الأرض وشعابها بمقدار ما لديه من جولات بالقلم على القرطاس وأنها في كلتا الحالتين ,لجولات خصبة موفقة سارت له فيها شهرة واسعة, انه رجل فكر وعمل معا, رجل سيف وقلم, رجل تصميم وتحقيق, وكل عمل يبدأه في الغرفة بين الكتب والأوراق ,لابد أن ينتهي به في الخارج, ينفذه حركة ونشاط في المجالات الواسعة, سواء أكان دورة بحث وتفتيش أو جولة كروفر أو رحلة استطلاع واستكشاف أو نزهة صيد وقنص
ولم تتطلب مهمة منه يوما مثل ما تطلبت مهمته هنا, في بلاد المتابلة من أعمال الاستطلاع والاستكشاف ,مما قاده إلى أساليب جديدة وطرق مبتكرة واختبارات ثمينة ,قطفها الكشاف فيما بعد ثمارا يانعة كانت خير وسيلة له إلى الاكتشاف إلى اكتشاف نفسه واكتشاف ما حوله من طبيعة وإنسان
وكم من ليلة قضاها بين تلال المتابو يستطلع يستصحب معه يوما هذا ويوما ذاك من رجاله, حتى اسماه القوم هناك بالذئب الذي لا ينام , وقد وصف احد مراسلي الصحف جولة من تلك الجولات الليلية كان له فيها دوره ..فقال:
” سالت يوما بادن باول أن يأخذني معه فغادرنا المعسكر حوالي الساعة التاسعة, وسرنا بأقدام خفيفة نقتحم ظلمة الليل إلى التلال التي في منتهى الأفق إلى أن وصلناها , وأخذنا نسلك مسالكها , كمن له بها معرفة قديمة, لا يخفى عليه منها خافية ,من طرق ومن مكامن ومن فجوج ومن ثغور وقادني بادن باول في طريق وعرة إلى تل أشرفنا منه على نيران احد معسكرات العدو, فأشار بالسكوت, ولبثنا ننظر إليها صامتين, ثم قفلنا راجعين اخذين طريقا أخرى جريا على عادة له من الذهاب في طريق بالعودة من أخرى وان مبدأ هذا الذي استوحاه من الفطنة والخبرة ,ليصبح الآن , ونحن في بلاد المنابلة , بين أقوام مخيفين, من ادعى دواعي الحذر والحكمة, وما بلغت المعسكر حتى تنفست الصعداء فلقد كفاني ما شاهدت وما خبرت واني لأحمد الله على سلامة العودة ولم اعد قط بعدها إلى مثلها ”
والى شهادة المراسل هذه نضيف شهادة القائد قال بلومر:
“أن يد بادن باول في نجاح الحملة العظيمة, واني لمدين له فيها بالكثير فلولا ما قام به من استطلاعات واستكشافات,لقاسينا الأهوال في بلاد من التلال ولآكام لا دليل لنا فيها ولا رائد فلقد كان يعرف طرق البلاد ومسالكها معرفة درس ومعرفة خبرة اتاحت له أن يضع المخططات الوافية الجامعة , التي قامت عليها العمليات كلها
وقد كلفته القيادة ,في تلك الحرب ببعض الحملات المحلية فقام بمسؤولياتها بما عرف به من همة ونشاط, وكان بعضها شاقا , يسير فيه على الأقدام مسافات طويلة, تحت الشمس المحرقة, في طريق وعرة لا ماء فيها ولا ظل وفي ذات يوم بينما كانت فر..يزته تسير هكذا في الصحراء قاحلة , وقد أنهك التعب والعطش رجالها, أذابه يقع على أثار إوزة تبشت بأظلافها الأرض طلبا للماء وصدق حدسه فانه ما كاد يحفر قليلا حيث نبشت الإوزة حتى انبجس خيط من الماء كان اثمن ما يحلمون به في تلك الساعة, ورأى, في يوم أخر، حمامتين تطيران من صخرة فدنا من الصخرة فإذا بينبوع تتدفق مياهه من أسفله
وانتهت الحرب بخضوع القبائل واستسلام الرؤساء وعاد بادن باول منها بغنيمة سيكون لها شأنها في المستقبل ,فلقد وقع يوما على قرن كانت القبائل تستخدمه للتنادي فراقه وأخذه وبه بعد اثنتي عشرة سنة أرسل صرخة الكشاف الكبرى ,لم حوله بها شبيبة العالم كله
وعاد أيضا من هذه الحرب بغنيمة أخرى, فلقد كانت له مدرسة ,وأي مدرسة وسع فيها معارفه في عمليات الاستكشاف وبرع في أساليبه ووجد فيه الكثير من الجديد, وان كتابة الحملة على بلاد المتابلة” ليطلعنا على الوافر منها وقد يكون الكتاب من هذه الوجهة أحسن ما كتب وجعله من الرسائل التي كتبها لامه, ملاها رسوما وتصاوير وحكايات وحوادث وقعت له دونها لساعتها, يوما بعد يوم تاريخا صادقا لهذه الفترة من حياته
ولا بأس من اقتطاع الأسطر التالية, والكتاب يعج بأمثالها,قال:” رب علامة حقيرة تكشف لنا عن أمور خطيرة ما المثل على ذلك: فأسوقه مما حدث لي يوما, وأنا في جولة استطلاع مع احد أعواني
عثرنا, فوق الأرض الرملية, على أثار خطوات هي دون شك لصغر الأقدام ونعومتها, خطوات نساء وأطفال, ولقد كان القوم أتين من بعيد, يدل على ذلك إنهم كانوا يحتذون النعال, مما لم يكونوا ليفعلوه, لو لم يكونوا في سفر, وكانت وجهة السير جبال المتابو,وفجأة صرخ رفيقي, صرخة الدهشة, إذ نظر على بضعة أمتار منا, ورقة خضراء ندية من ورق الأشجار التي تنبت على بعد خمسة عشر كيلومتر من هنا فعلمت من كل هذه الأدلة ,أن قافلة صغيرة من النساء حملت إلى المتابوزقاق من البيرا المحلية الجديدة, سدت أفواهها, كما هي العادة, بأوراق الخضراء من تلك الأشجار وقد مرت القافلة في الصباح الباكر إذ كان الهواء يهب شديدا , يتطاير بالأوراق إلى هنا وهناك, وقد ذهب بالورقة إلى حيث وجدناها ولابد أن تكون القافلة قد بلغت في الساعات الأولى من الصباح إلى حيث قصدت كما ولابد أن يلتف القوم هناك حول القافلة القادمة وحول زقاق البيرا الجديدة ,إذ يعقدون كعادتهم, حلقات الشرب, يحتسونها حتى يثملوا فتخف الحراسة ويضعف لحذر إذ يكونون, بما هم فيه من شرب ولهو, في غفلة عما يجري حولهم أنها فرصة قد سنحت إذا لبث العيون وإرسال دوريات الاستطلاع, على وسع مدى ”
انتهت بالصلح مهمة بادن باول فعاد إلى الكاب ومن الكاب أبحر إلى إنكلترا وكان معه في الباخرة احد مرسلي الصحف فوصف لنا في صحيفته ناحية جديدة لشخصية بادن باول حان لنا أن نذكر عنها شيئا قال:
كلفت بتنظيم حفلة لركاب الباخرة فكان بادن باول أول من قصدت للمساهمة في الحفلة ,واني لأراه الآن جالسا أمام طاولة صغيرة وحوله المخططات والرسوم والأوراق انه اخذ بتأليف كتاب ” الحملة على بلاد المتابلة” فما أن دري بمقصدي حتى أجاب دون تردد قائلا:
ضع اسمي في سكتش موسيقي
تحت أي عنوان ؟
لا ادري بعد, اترك ذلك لساعته
وذهبت إلى غيره, وأنا فرح , وحسب اسم بادن باول عنوانا يستثير الحماسة, وفي اليوم التالي كانت صالة الباخرة الكبرى تغص بالناس وأكثرهم من عليه القوم ومشاهير الساعة: ودخل بادن باول بعد القسم الأول من البرنامج ,وجلس يجانبي فسألته:
والعنوان؟ هل وجدته؟
فأجاب ضاحكا:
لم أجده بعد, والحقيقة أني لا اعرف بعد ما سأقوم به من دور ولكن هون عليك فلسوف تسعفني القريحة, ولن يخونني الحظ
وكنا ساعتئذ نستمع إلى أغنية هزلية لأحدهم بعنوان:” أني عصبي المزاج” لكن الرجل اخفق في ما أراد من بعث الضحك وستثارة المرح, فظل الجمهور باردا لا يستجيب لنكته, ولا يحرك لها ساكنا, لا إنني عندما انتهى من إنشاده ألهبت يدى تصفيقا, على القوم يطلبون منه إعادة القطعة, فيجد بادن باول أثناء ذلك عنوانه وموضوعه ولكن عبثا, فلم يجارني احد من الناس بمثل تصفيقي, ونزل الرجل وقام بادن باول إلى البيانو, في عاصفة من التصفيق والتهليل ومهد لدوره بالكلمة التالية:
سيداتي , سادتي
اقرأ على البرنامج الذي بين يدي :” الكولونل بادن باول سكتش موسيقي” لكنني لا أقرا لهذه الدور من عنوان وبالحقيقة أني لم أجده, أن بالا حرى لم أفكر به إلا في هذه اللحظة وفي استأذن الفنان الذي سبقني لكي انتحل عنوان ذاته, فيصبح عنوان دوري الآي:” إني عصبي المزاج”
وظل بادن باول ساعة ينتقل من أنشودة إلى أنشودة, ومن مسرحية إلى مسرحية, ومن حكاية إلى حكاية, حتى ضجت الصالة ضحكا وتصفيقا في عاصفة اجتاحتها من أقصاها إلى أقصاها”
أنها عطية من عطايا لروح, شهدنا هنا, على ظهر الباخرة بوادرها, سوف تشيع فيما بعد في سهرات نار المخيم المرح والسرور بين الألوف من الطلائع
وقضى بادن باول في إنكلترا عطلته , أياما هادئة خصبة, أمضى بعضها في الاستراحة و في زيارة إخوته وأصدقائه, وقد انتشروا في كل أطراف البلاد, وبعضها الأخر في إعداد كتابه “الحملة على بلاد المتابلة” وفي كتابة الرسائل إلى من ترك هنا وهناك في أسفاره من أصحاب ومعارف بانتظار مهمة جديدة , ورحلة جديدة
ولم تلبث المهمة الجديدة أن أتت قائدا للفرقة الخامسة من الخيالة برتبة كولونيل جنرال, ولم تلبث الرحلة الجديدة أن أتت, هي أيضا, إلى الهند, حيث كانت الفرقة الخامسة في خدمة ولقد شق عليه كثيرا أن يغادر الفرقة الثالثة عشرة التي قضى فيها أكثر من عشرين سنة, إلى فرقة جديدة لا يعرف من ضباطها أحدا, والإطلاع له من تقاليدها على شيء وكان يخشى أكثر ما يخشى في أول التقاء له بها , وقد كتب احد ضباط الفرقة يصف تأثيراته قائلا:
لم نلبث أن شعرنا بيد القائد الجديد, وانه القائد وأي قائد ولقد اخبرني فيما بعد انه كان يحسب للملتقى الأول حسابه إذ لم يكن يومئذ من السهل الانتقال من فرقة إلى فرقة إلا انه سرعان ما تملك زمامنا واخذ بمجامع قلوبنا “
وقد رافقه احد الضباط ,وهو في طريقه إلى الهند, فكتب قائلا:
“لن أنسى ما أحاطني به بادن باول طوال السفر من عطف وعناية وقد أراني مجموعته من الرسوم, وفيها ما وقع عليه في سفاره,لاسيما في حملته المنابلة الأخيرة من طرائف جميل شارحا لي إياها رسما رسما ساردا لي عنها من القصص والنوادر مالا يوصف
وكانت له معي أحاديث لذيذة طويلة عن دوريات الليل في الحرب, وهي فرق الاستطلاع والاستكشاف , وعن الملاحظة والتدقيق, أنها خبرته الشخصية يفيض بها إلي في هذه الأحاديث أفدت منها كل الإفادة لاسيما عندما عهدت إلي فرقتي مهمة الطلائع
وتطور بنا الحديث مرارا إلى شؤون أفريقيا والى حرب البوير وكانت شرارتها تنذر بالاندلاع بين ليلة وضحاها واذكر لي أن الحكومة ترى أن عشرة ألاف من الجنود تكفي لمجابهة الحالة , بينما يرى هو أنها تحتاج إلى خمسين ألف, وقد سخروا به يومئذ وأنني لم أر قط رجلا وادع النفس مثله, لا يزاحم احد على فكرة, ولا يفرض رأيه على احد فرضا”
وما كاد يقوم على راس فرقته, حتى اخذ يسعى كعادته إلى رفع مستوى الجندي ففتح له مطعما خاصا يصرفه به عن مطاعم المدينة ووفر له أسباب التسلية, دعاه إليها داخل أسوار المعسكرات, بينما دعا زوجته للقيام بأشغال نافعة من الوشي والتطريز وقد ذكر عنه احد ضابطه ما يلي:” ” كنا ,أنا وبادن باول نستقل القطار إلى دلهي, وكان الحر شديدا, والجو خانقا, وأكثر المسافرين معنا نياما, وكنت أتلهى بكتاب سهل المطالعة أزجي به الوقت , بينما كان بادن باول منكبا على أوراق أمامه يرسم ماذا يرسم يا ترى؟ ونظرت, فإذا بها زخارف لأشغال الإبرة يعدها لزوجات الجنود”
إلا أن جل اهتمامه قد صرفه في السهر على صحة الجنود, وتعزيز أسبابها, لاسيما وان الأوبئة كانت متفشية في الهند تفشيا مريعا, يتعرض لها الجنود البريطانيون أكثر من غيرهم, وكانت مرض الزحار من أبعدها انتشارا واشد فتكا ولم يكن بادن باول ليرضى بان يعالجها , دون أن ينقصى أسبابها ليستأصلها ,هذه طريقته في كل ما يعمل انه يذهب إلى حيث يكمن جرثومة , فيعالج من الداء أصله , واليك ما كتبه عن ذلك:
” .. ينتشر في الهند مرض مثل مرض الزحار ,ولا يذهب المرض من الضحايا مثل ما يذهب له , ولم يكن الجنود البريطانيون في منعة منه ،لا بل كانوا أكثر الناس له تعرضا, لما نشأوا عليه في إنكلترا من نشأة لا تعدهم لمثل هذه الأحوال
وقد اتخذنا للأمر, في فرقتنا, ما يقتضي من التدابير فكنت أدون يوما بعد يوم, وأسبوعا بعد أسبوع, وشهرا بعد شهر, طوال السنتين اللتين قضيتهما في تلك الناحية ,كل حادث يقع ,وأدون معه أيضا ما أستطيع من المعلومات والظروف, من اتجاه الهواء , وتقلبات الجو وحالة الثكنة, وعلو السقف, ونوع الاسطحة, ودرجة الرطوبة فخرجنا من كل ذلك بفوائد وافرة , وبنيجة عملية: فلقد كان الجنود لا يهتمون عندما يختلفون إلى مطاعم المدينة, لما يأكلون ويشربون, فيعودون إلى الثكنة بجراثيم المرض, تسري عدواه منهم إلى غيرهم, ولذا فقد أنشأت لهم فرنا يجدون فيه كل ما يطلبون من الحلوى والمعجونا ومعملا لشتى المشروبات غير الكحولية من كازوز وعصير ثمار وغيره وإدارة لمحبب تعقمه مع مستحضراته من الزبدة والسمن وتحفظه في أوان نظيفة, كما وأوعزت إلى الجنود بالإقلال ما ستطاعوا من الذهاب إلى المدينة, والجلوس على موائد مطاعمها, فكان لهذه التدابير الحازمة في استئصال الداء أثرها الحميد
إنها عادته في تعقب الأمور ,وملاحقة أسبابها البعيدة سيبثها بين كشافيه على أوسع نطاق
إنها الروح العلمية التي تذهب بالحوادث إلى ينابيعها ,وتعالج الداء أسبابه
كان بادن باول لا يفتأ مسع ذلك يقول أن العمل فضل علاج لأمراض فكان لذلك يمنح ثقته لضباطه ويترك لهم المجال ليأتوا فيه بقسطهم من الجهود وكان يلخص رأيه في ذلك بثلاث نقاط :
- أنط بكل من رجالك مسؤولية يقوم بها بوسائله
- حبب التدريب إليهم وليكن لكل عمل من أعمالهم دوفعه من اللذة والمتعة
- نظم العمل في وحدات من الرجال صغيرة تتنافس فيما بينها وتتراحم, في أشغال داخلية في الثكنة ,أو خارجية في العراء
هي أراء في تصرف الرؤساء مع مرؤوسيهم, طبقها بادن باول بحرفها وروحها, فحببته إلى ضباطه, حتى انقادت له أعنتهم فأصبحوا له أطوع من بنائه
وليس بأصدق من شهادة احدهم في هذا الصدد:
“لم تذهب الثقة التي أولاها بادن باول رجاله دون جدوى واني لأذكر احدهم, وقد كان سيئ السمعة في الجندية, لا يعتمد عليه في أمر , ولا يعلق عليه من أمل ,فما أن استلم بادن باول قيادة الفرقة حتى عهد إليه فيها بإحدى المسؤوليات الكبرى التي لم يكن لينتظرها مما بعث في نفسه الهمة, فاكب على العمل بنشاط لا يعرف مثله, فخور باختيار رئيسه له لمثل هذه المهمة ولم يقف تحسن سلوكه هذا على زمن وعلى رئيس فلقد أبدى ,فيما بعد في حرب البوير من الشجاعة وأدى من الأعمال ما استحق عليه رفيع الأوسمة, فكان تقدير بادن باول له فاتحة عهد جديد من الإصلاح والتقدم, إذ اخذ يثق بنفسه, بعدما رأى من ثقة رئيس به
كتب غيره :
لقد كان لبادن باول شعبية في الفرقة واسعة شعبية لا تتنافى مع الهيبة .. بحيث انك تكاد لا تجد في الفرقة من يأتي مخالفة أو يرتكب .. وكان يحسن ركوب الخيل, ويحب جولات الفروسية على صهواتها, .. جياد الفرقة دائما على أحسن هيئة وأصلح حال, حتى ماكنا .. التفتيش إذ كنا دائما متهيئين له كأنه على وشك أن ينقض علينا .. كان بادن باول يلقي عن هذه الأمور كلها المحاضرات النظرية .. يطبقها أثناء التدريب يقوم به في ساعات من الليل والنهار .. رحاله وحدانا, أو أزواجا, ليقوموا بجولات من الاستكشاف .. طة ويأتونه بعدها بتقارير مفصلة عنها , وقد تتطور مثل هذه .. التدريبية إلى نوع من المناورات ليقوم الجواسيس والطلائع فيها .. وكان لا يفتأ يقول بضرورة الوقوف دائما على قدم الاستعداد .. الفرقة من الخيالة , ما يكاد الأمر يبلغها بالتحرك حتى تكون قد .. بكامل عددها وعتادها ..المناورة المفاجئة
.. رجاله عنه حكايات تقضي منها يعجب فيقولون انه لا ينام, ولا .. ولا يغفل عن أمر ولا يعرب عنه حادث وقد ينام ولاشك ..في اجتماع للضابط لكنني كنت على يقين من انه سوف يرسل إلي ..يره في الساعة الثانية صباحا, طالبا مني أن أقوم بتنفيذها على الفور ..له نظرة في الرجال صادقة , فكان لا يختار للمهمة لأصاحبها”
وان العجب ليبلغ منا مبلغه وعندما تعلم أن له أيضا, بجانب حياته من الناس ,حياته مع الكتب حياة درس ومطالعة ينمي بها ثقافته العامة والخاصة, ويوسع بها دائرة معارفه إلى أقصى ما يمكن فكان في ذلك مثالا لضباط فرقته
وكان له في الفرقة أيام استراحة يقضيها في الصيد والقنص, يستمتع بها استمتاع يدلنا على مداه ما كتب عنها في مختلف مؤلفاته, وكان له ميل للفيل لا ينازعه فيه غيره من الحيوانات وللفيل في كتبه أجمل الصفحات – وان قلمه ليسيل بليغا عندما يطرق موضوع الحيوانات- وهذه فقرة له عن الفيل ,يقول فيها:
“لن تطاوعني يداي على قتل الفيل, لأني عشت مدة بين الفيلة واستخدمت الداجن منها في شتى شؤوني , وأنها لمتعة لي أن انظر إلى فيل اتملني منه, اترك لعيني تسرح في جسمه, تلاحظ منه كل بادرة, وكل حركة وسكنة, واني لأجد من القساوة أن يقتل المرء فيلا هو من هدوء الطبع, وعظم الجثة, وروعة المنظر , وطول العمر, ما تعلم وكم خطر ببالي من تشبيه جميل جدا الفيل لي فيه, وهو يسير في مرج اخضر يتماوج النسيم بأعشابه, كأنه سفينة فوق بحر, وفي بعض المروج الخصبة الريانة لا نرى من الفيل إلا عالي جسمه فيسير جوادي بجانبه كما يسير قارب صيد في البحر بجانب مركب شراعي , وانك لتشعر الشعور ذاته إذا ما اعتليت يوما ظهره لسفر فانه ليهتز بك في سيره اهتزاز السفينة إذ تمخر العباب وعندما يقف بك, فانه لا ينفك يهتز بك ويتماوج, كما تفعل الرياح بالسفينة التي ألقت مراسيها تعلو بها وتهبط وتتأرجح,ما إذا سار في الغابة, وكنت أنت معتليا ظهره داخل الهودج, فانك لتختال نفسك على ظهر سفينة في عرض البحار
أنها لصفحة لا تنسى من الوصف الجميل من الأدب العالي ، ألهمته إياها نفسه الشاعرة تهتز أوتارها لكل مشهد رائع من مشاهد الطبيعة