الرئيسية 8 الموسوعة الكشفية 8 الحركة الكشفية 8 بادن باول الجندي والكشاف … الجزء الرابع

بادن باول الجندي والكشاف … الجزء الرابع

في سبيل الطلائع

هذا عنوان كتاب ظهر لبادن باول في تلك الردحة من الزمن, كان له رواجا وأي رواج, ولقد مر بنا ذكر غيره من أثار قلمه, وان ما حدا ببادن باول في أول الأمر إلى الكتابة ,وذلك في الصحف, إنما كان ما عاناه في بدء حياته العسكرية من ضيق ذات اليد, فكان يستعين على العيش بقلمه, والحقيقة أن استجاب في ذلك إلى نداء في ملح إلى موهبة أدبية من طرز رفيع , فلقد كانت له نظرة الفنان تنفذ إلى أعماق الأشياء تكتشف منها ما شاق وراق, ليرسمه بعدئذ على اللوحة خطوط وألوانا, ويثبته على الورق, بالقلم والمداد, كلاما وبلاغة, كما وكانت له مقدرة عجيبة على جلو غمض الأمور وأعوض المسائل, في عبارات تأتي فصيحة اللسان متينة التركيب كأنها سبكت سبكا, لا تترك زيادة لمستزيد

وهكذا بدأ بكتاب صغير عنوانه في أول الصيف ظهر عام 1883 على شكل ما درج اليوم بين الطلاب من كتب الملخصات والمذكرات انه بالموجز أشبه , وضعه عام 1884  كتاب واستطلاع واستكشاف وهو .. الجنود سوف يتطور كثيرا بين يدي بادن باول , ويستغني ..حتى ليصبح له يوما في الكشفية شأنه, وهو بأسلوبه, لا..عن سائر كتبه, انه يعرض أولا للأفكار العامة والمبادئ الأساسية..والاستكشاف, ثم يأتي لها بالأمثلة ,يستقيها من خبرته ,ومن خبرة .. ومن مطالعاته, ومحور الكتاب الملاحظة ,عليها يقوم البناء كله ..

.. إلا يفوت نظر الكشاف شيء فليكن له عيون مبثوثة وراء ..عيون تسعى بين يديه,وعيون مرسلة إلى كل الجهات, بحيث يلتقط.. الأشياء وظواهرها ما خفي عن عيون غيره, وليدقق النظر في ..يسلك, طابعا في ذهنه صور معالمها وشاراتها, وليلتفت إلى …حين إلى أخر, ليحفظ صورة الأماكن التي يمر بها ,حتى يجد .. دون مشقة

كما نرى , كتاب تعليمي توجيهي ولذلك فقد أتى خاليا من ..التصوير التي امتلأت بها سائر كتبه

..كتاب “إرشادات إلى الخيالة ” ظهر عام 1885 وكان في أصله ..ألقاها في الفرقة الثالثة عشرة للخيالة, يوم كان فيها ملازما, وأننا ..في هذا الكتاب أطراف الخواطر والأفكار عن الفصيلة ,والمخيم, .. والارتياد, ووضع التقارير واخذ الرسوم ,وما إلى ذلك ..كتبه في تلك الحقبة فهو دون شك كتابه ” في سبيل الطلائع” الذي صدر عام 1899

لم يكد الكتاب يظهر حتى قامت حوله ضجة سارت به إلى كل الأقطار, واقتحمت به كل الميادين ,من عسكرية ومدنية, فزودت به قيادة بعض الفرق جنودها, وتلقفته أيدي المربين ,يستلهمونه في حاجات التربية والتعليم حتى بيعت منه المئات في أسابيع, وظهرت له طبعات مختلفة في لغات عديدة

يتحدث الكتاب أولا عما يجب أن يتصف به الجندي الكشاف من صفات ثم يبحث عن الوسائل لتنمية هذه الصيفات فالموضوع الأساسي إذا هو” ما هي العملية لتنمية صفات الشجاعة والاعتماد على النفس والثقة بالذات والاطمئنان, والحرص فهناك من الرجال من لا تنقصهم الشجاعة, فيقتحمون كل الصعاب , حتى إنهم ليذهبون إلى الجحيم إذا ما أرسلوا إليه, لكننا بحاجة ماسة إلى رجال يذهبون إلى حيث يرسلون, ثم يعرفون كيف يعودون إلينا سالمين ليضعوا التقارير عما ارسلو به ”

وحسبنا دلالة على مضمون الكتاب عناوينه: البحث عن الطريق – اختبئ – اقتف الأثر – قرأ الأدلة – رسم – ضع التقارير- تجسس

ويتوسع الكتاب في موضوع الفصيلة ,فيقول بضرورة خلق وحدات صغيرة من ستة رجال يقوم في كل منها التدريب اللازم , ويقوم فيما بينها التسابق في شتى الحلبات, من رسم , والملاحظة, والاستكشاف, واللعب, وانه لأول من نادى بالألعاب وسيلة للتديب والتعليم, وكم من لعبة اخترعها بادن باول لا تزال إلى اليوم مثار الحماسة بين الكشافين

وليس بادل على طريقة الكاتب من الأمثلة التي أوردها في كتابه” .. منها اثنين

المثل الأول :

ضربنا خيامنا

المثل الأول:

ضربنا خيامنا في بقعة من الأرض جبلية, ونحن نظن أن العدو في .. لإبل الأعلم له بوجودنا, وأخذت معي بعض الرجال وذهبت في جولة استطلاع ليلية نستكشف فيها مواقع العدو,وفيما كنت أدور حول الأمكنة المطلة على المخيم, شاهدت فجأة ومضة لمعت كالبرق ثم ..,وعاد الظلام الدامس مخيما على الأرجاء وبدا لي أن مثل هذه ..لا تأتي إلا عن احتكاك عود من الثقام ..

.. عود الثقاب إذا فتح علي أفاقا من المعلومات فعرفت أن العدو لا..مكاننا, وان على الأكمة من عليها,لمراقبة مخيمنا, وان الأكمة, ..عليها عادة من نافخ نار, لتعج الآن بالمتربصين بنا المتيقظين, ..الكثيرون, لان الفرد منهم, على ما اعلم من طباعهم, لا يجسر على .. الأكمة وحده في الليل, وأنهم لفي يقظة, لان ما أتى به احدهم ..غال عود الثقاب ليدل على قيامهم ساهرين, وان لنقوم من سهرهم ..لا تخفى ,لأنهم على ما علم من عادتهم, ما كانوا ليظلوا إلى مثل ..ساعة ساهرين لولا ما يبغون من مراقبة حركاتنا

..ما عرفناه على هذه الصورة إلى تغيير خططنا فلقد أتينا ..كشف مواقع العدو, حتى تسير إليه تحت جنح الظلام, فتنفض عليه ..عين غرة , فإذا بنا نجد انه لعلى اشد ما يكون من الحذر واليقظة, وان العيون قد بثت علينا ليل نهار, وان سيرنا إليهم في الليل لم يعد ليخفى عليهم ولم يبق له من جدوى, إذ لا يلبث الرقباء على الأكمة أن يفضحوا امرنا بنيران يشعلونها في وقتها إنذارا لقومهم بالخطر المداهم

لقد كان لعود الثقاب هذا شأنه في استجلاء الموقف وتغيير الخطط

المثل الثاني:

كان الهواء ناشفا, والسماء صافية, وأديم الأرض يابسا, بعد أمطار غزيرة هطلت منذ يومين, وكنا نسلك طريقا وعرة في جبال كشمير, وبينما أنا سائر لفت نظري حجرة يحجم جوزة الهند فوق جذع شجرة فتساءلت: ما أتى بالحجر إلى حيث هو من الجذع ولم البث أن عرفت الجواب

لقد كان علي الجذع, بجانب حجر, قشور من الجوز مهشمة كما كان أيضا قشور غيرها بالقرب من صخرة قامت في الجنوب من الجذع ولم يكن هناك لا شجرة واحدة من الجوز على مسافة إلى الشمال من الجذع ,وكان في أسفل أثار طين يابس قد وقع هناك من نعل واستنتجت مما رأيت:

إن الرجل كان ينتعل نعلا, ويحمل على ظهره حملا ولولا ما كان يحمل من حمل لكان جلس على جذع الشجرة أو بالقرب منها, بينما نراه قد جلس هناك, على الصخرة العالية فاسند إليها ظهره وحمله, واخذ يأكل الجوز ويرمي بالقشور حيث هي إلى الآن, وانه راجل وليس امرأة , لان النساء لا يجلسن على ظهورهن من أحمال,إن الرجل كان في سفر, إذ انه لم يكن,كعادة بني قومه, حافي بل منتعلا نعلا

إن الرجل كان يسير إلى الجنوب, فلقد قطف من الشجرة التي في ..,واخذ يكسره بحجر هناك, ثم تابع طريقه إلى الجنوب, وما ..الصخرة, حتى أسد عليها ظهره وحمله, واخذ يأكل ما معه ..

.. إن الرجل قد مر هناك منذ يومين, إذ كانت الأمطار تهطل, لان ..التي تركها وراءه, تدل على أن الأرض,يوم سار عليها ..لا وطينا

..موجز قائلا:

.. هناك ,منذ يومين ,رجل مسافر, يحمل على ظهره حملا, .. الجنوب”

..تقدم أن أسلوبه يقوم, أكثر ما يقوم, على الملاحظة ..  ولاغرو فهما أساس كل علم ومعرفة

.. الكتاب الصلة بين الجندي والكشفية, فلقد كتبه للجنود, فإذا .. حدود الجيش وينتشر في صفوف الشعب, بين أرباب التربية, ..وبين الشبان, يتحمسون له .. ويأخذون بطريقة وأساليبه .. بادن باول إلى إعادة النظر فيه, وإخراجه في طبعات جديدة ..للجنود, وبعضها للشبيبة

لقد استكملت آراؤه فيه مراحل تطورها فبلغ فيه, في شؤون الكشفية مبلغا من النضج

لقد حان له , بعد أن نشر أساليبه بين الجنود, أن ينشرها بين الشبيبة, فيطبقها على مدى أوسع, في منظمة الكشاف لم تعد الساعة لذلك ببعيدة

مافكنج

تجهم الجو في أفريقيا الجنوبية, وتوترت العلاقات بين البريطانين .. والبوير شعب من اصل هولاندي, استعمر البلاد قبل البريطانين, ..فيها قدمه, ووطد أركان سلطانه, واستولى على زمام الأمور .. البلاد ,حتى أصبح فيها الطبقة السائدة دون منازع, فكان لابد ..اصطدام يقع يوما بين البوير وبين البريطانين, السادة الجدد, اخذ ..هما يستعد له, بينما وقف السكان الاصليون من هنود وغيرهم, من ..الصراع, موقف من لأحول له ولا طول, لا يوالون واحدا من ..معسكرين على الأخر, ويخدمون كليهما على السواء, حسبما تقتضي ..حاجاتهم, انه شعب مغلوب على أمره , لا يبالي من يقوم منهما عليه ..لا مفر ,مستبدل سيدا بسيد

لا مجال هنا للخوض في أسباب هذه الحرب, لتبريرها أو لشجبها, أنها, على كل حال,كما وصفها بادن باول ذاته” من شر الحروب” ولقد ..له عن تلك الحرب, وأولئك المحاربين, كلام حق, في رسالة كتبها ..خمس سنوات من انتهاء الحرب إذ وصفا الجو وخمدت الأهواء فقال :

” لقد زرت أثناء طوافي الأخير في البلاد, عددا من أصدقائي البوير, فتبادلت معهم الخواطر والذكريات عن الحرب التي قامت فيما بيننا حديث وجد كل منا لذة في خوضه بعد ما هدأت الأمور, واستتب السلام واني لأكن لهذا الشعب عطفا وتقديرا, فلقد عرفته عن كثب, وخبرته خبرة شخصية, يوم كنت عضوا في اللجنة المختلطة التي تألفت بعد الحرب من البريطانيين والبوير انه شعب يتحلى بالكثير من المزايا الحسنة والصفات الجديرة بالتقدير

ولقد استخفت السلطات البريطانية يومئذ بقوة البوير,واستصغرت شأنهم, ولم تعر أمرهم حقه من الاهتمام, إذ كانت على اعتقاد بأنهم لن يصمدوا طويلا أمام جيش نظامي, وان الحرب,إذا ما وقعت, لن يطول أمدها أكثر من اشهر معدودات, فكان لهذا الخطأ وقع فيه البريطانيون أوخم النتائج , إذ عاد احتقارهم للبوير بالوبال عليهم

كان بادن باول أثناء ذلك يقضي عطلته في إنكلترا ,وإذا باللورد ولسلي, القائد العام, يستدعيه في احد أيام حزيران إلى وزارة الحربية على وجه السرعة, وكان من عادة القائد العام أن يباغت مستمعه, مباغتة يغمز بها عوده, بمتحن بها متانة أعصابه, ورباطة جأشه, فبادر بالقول وهو يحدجه بنظر ثاقب:

عزمت على إرسالك إلى أفريقيا الجنوبية في مهمة خطيرة

لبيك, يا مولاي

أرى أن ترحل السبت

كلا, يا مولاي

فتجهم وجه القائد:

ماذا تقول؟

إن بواخر أفريقيا الجنوبية لا ترسل السبت, ولذا فسأرحل الجمعة, فقهقه القائد ضاحكا مسرورا, ثم اخذ يطلعه على المهمة التي انتدبه إليها , فقال:

يبدو أن الحرب بيننا وبين البوير واقعة لا محالة, ولذا فاني مرسلك إلى هناك برتبة قائد قوات الحدود الشمالية الغربية, ومزودا إياك بالصلاحيات الواسعة, وقد شكلت لك هيئة معاونيك وأركان حربك

وفي المساء بادر بادن باول في مكتبه , منكبا على الخرائط يدرسها , ويدرس خطط العمل

وكانت التعليمات التي زوده بها القائد العام مقتصرة على الخطوط الكبرى التالية:

تجنيد فوجين من المشاة بكامل عددهما وعتادهما

تحصين الحدود والمدافع عنها, إذا ما نشبت الحرب

أشغال جيوش البوير في المناطق النائية القصية, بعيدا عن احتشاداتهم الكبرى وقواتهم الرئيسية, بحيث تظل القوى منشتتة لا يتم الاتصال بينهما

أما الوسائل لتحقيق ذلك كله فمتروكه له, وما كانت هذه التعليمات العامة لتضيق عليه الخناق, وتسد في وجهه السبل فيداه مطلقتان في كل ما يريد

ولقد كتبت عنه يومئذ إحدى المجلات قائلة:

“إن بادن باول رجل مقدام, وفارس مغوار, يحب مهنته حبا جما, لكنه يمارسها على طريقته الخاصة, ويكره فيها القيود التي تكبل الحرية, والأوامر التي تسد السبل, فيصبح المرء معها آلة صماء تتلقى كل حركة ,وعقلا جامدا لا يفتق بحيلة, وليس مثل طريقته لتنمية الشخصية وبعث المسؤولية, انه يعتمد كل الاعتماد ,في تدريبه للجنود, وفي تسييره للحرب, على الملاحظة الواعية, تستوعب كل الظروف ,لا يفوته منها شاردة ولا واردة, كما ويعتمد على البصيرة الثاقبة, والفكر المتوقد, والمحاكمة النيرة, والجهود الشخصية, تتفهم الأوامر, وتطبقها على شتى الأحوال, وتحققها بالأساليب الملائمة”

ولما اتهمه بعضهم باحتقار الأساليب التقليدية التي تتمشى عليها المدارس العسكرية, انبرت صحيفة كبرى تدافع عنه بما يلي:

” إن بادن باول جندي من طراز خاص, انه لا يزدري بأنظمة المدرسة العسكرية التي تخرج ضباطها على أساليب مقررة قامت على خبرة الأجيال, إذ ليس مثله من يقدر قيمة الأوامر المفصلة, والقوانين الدقيقة ,حق قدرها ,لكنه يرى أن الجهد الشخصي والاجتهاد الفردي هما من الأسباب الرئيسية لكل تثقيف وتربية, ثم أن له من طبيعته الغنية ما يفتق له كل أنواع الحيل والوسائل, يواجه بها الطوارئ والمفاجآت كما أن له من نظره والدفاع وصرف جهده لكسب السكان الهنود والزنوج, وعددهم في المدينة ستة أضعاف البيض, وقد سرى في صفوفهم, في أول الأمر, بعض الاضطراب والتململ, لكنهم ظلوا إلى أخر الحصار موالين للانكلترا, مخلدين إلى الهدوء والسكينة, يستمتعون بما وفره لهم بادن باول من أسباب العيش ,إلا انه مع ذلك لم يكن ليأمن جانبهم, فالجاسوسية لحساب العدو كانت منفشية فيما بينهم, وكان يعلم أن الجواسيس منهم على اتصال دائم بالعدو, يتسللون إلى صفوفه, بخفتهم المعهودة, ليزودوه بالأخبار

ولم يفت بادن باول أن يستخدم حتى الجواسيس أنفسهم لغايته, كما كان يستخدم كل ما يطرأ من ظروف ليس في اليد من حيلة لدفعها, فإذا ما أراد إبلاغ الأعداء خبرا كاذبا يخدعهم به خدعة تنطلي عليهم, عمد إلى نشر الخبر في المدينة وهو على يقين انه لن يتأخر وصوله إلى الأعداء وفي الصورة التي أعلنه بها, عن طريق الجواسيس

ولقد قيل قديما أن الحرب خدعة, ولم يستطع بادن باول أن يصمد ,طوال اشهر عديدة, إلا بفضل الحيل والخداع التي كانت يستنبطها كل يوم, لا ينضب لها معين, يريد أن يدخل بها في روع العدو ما يريد, من انه قوي, وان المدافعين عن المدينة كثيرون, وان الذخيرة متوفرة, وان المعنويات عالية, فيجعل العدو هكذا في شغل شاغل, لا يهدأ له بال, ولا يستقر على حال, يبادره كل يوم ببادرة, فيظل في تيقظ دائم وتأهب مرهق

ولم يكن ليقصر عمله على الدفاع والمقاومة لقد كان يتحين الفرص لشن بعض الهجمات, ينقض بها عليهم, في هذا القطاع أو ذلك, على حين غفلة

وكان الأحد يوم هدنة بين الطرفين, وكان بادن باول يحوله إلى يوم مرح وترفيه, فينظم الألعاب الرياضية, ويحي الحفلات الموسيقية, ويخرج بالتمثيليات المبهجة, يقوم هو نفسه بأهم الأدوار فيها, لاسيما الهزلية منها, يتنكر فيها ويتزيا, حسب المقام, دون أن تنال من هيبته, في أعين الجنود, أو تحط من مقامه لديهم, وفي بعض الليالي التذكارية كانت الأسهم النارية الملونة تخترق كبد السماء, بعد ما يكون البوير قد أحيطوا علما بأنها أسهم بريئة لا يخشى منها عليهم من شر

كان ذلك ليرفع من معنويات الجنود, ولينفخ فيهم روح الاطمئنان والشجاعة, فتتجدد القوى, وتتشدد العزائم, وتزول غوائل الملل والضجر, وهما شر ما تبتلى به حامية طال الحصار عليها, وامتدت بها الأيام

لم تكن كل وسائل الدفاع متوفرة لدى بادن باول فلقد كان هناك نقص كبير في العتاد, وفي المدفعية وفي الذخيرة فكان يحتال لذلك ما استطاع يستخدم من يجد فيهم الكفاءة  والمهارة من أرباب المصانع والمهن, ليستعيض ما أمكن عما ينقصه, بأوائل ومعدات من استنباطهم, ومن إنتاجهم, وكانت عنابر السكة الحديدية, التي كانت المدينة إحدى محطاتها الرئيسية تمده بما يلزم لذلك من الآلات والفولاذ والاختصاصين

وكان في المدينة أربعة من مراسلي شركات لأنباء وقد رأى بادن باول انه قليل الكلام, يكاد يلزم الصمت, إلا انه كثير الحركة والعمل أكثر ما تراه, في الليالي الساكنة المظلمة, متجولا بالقرب من خطوط البوير, يسير بخطى خفيفة سريعة, مطلا هنا على كومة من الصخور ينظر ما وراءها, متواريا هناك وراء عوسجة تخفيه عن الأنظار, زاحفا مرة, دأبا مرة أخرى , لا يحيد بنظره عن خطوط العدو ومعسكراته, حتى إذا تم له ما راد من معرفة شؤونه عاد إلى مقره يدرس الخطط, ويجددها, ويحورها, وهو في طريقه يباغت هذا الخفير متغافلا, وذاك لاهيا, إلى أن يصل إلى مقره, وقد جمع من المعلومات حصادا وافرا يستغله عند الحاجة،

طال الحصار, ومل المحاصرون فذهب القائد كرونجه بستة آلاف من البوير يحاول نصرا أسهل في مكان أخر, تاركا وراءه القائد سنمان مع ثلاثة آلاف ,إلا أن وطأة الحصار على المدينة لم تخف بذلك كثيرا, كما وان حالة البريطانين العامة, في مختلف جبهات القتال, لم تتحسن فلقد منوا منذ بدء الحرب, بخسارة تلو الخسارة في سترنبرغ, ومكرفونتان, وكولنسو ولا يزال الحصار مضروب النطاق على كمبرله, ولاوسميت, مما كان له أسوأ الأثر في إنكلترا, ولولا ما كان يرد عن مافكنج من أخبار صمودها الباسل ,ودفاع حاميتها المستميت, لكان القلق بلغ غايته عن هذه الحرب التي سارت الرياح فيها بما لا تشتهي السفن

ولما جاء اللورد كتشنر في الكاب عام 1900 لتقلد القيادة العامة , ظل طوال اشهر يقتصر عمله على إمداد مافكنج بالثناء والتشجيع فحسب, فهو لم يرد أن يغرر بالحامية  بوعود من الإمدادات قد لا يستطيع أن يبر بها, في الظروف الحاضرة, وحاول بادن باول من وجهته أن يفك الحصار ليتصل بجيش بلومر القادم لمساعدته, فشن هجومه على احد حضون البوير, لكن الهجوم فشل, لان الجواسيس كانوا قد ابلغوا أمره إلى الأعداء فكانوا له على قدم الاستعداد, أنها الهزيمة الوحيدة التي منيت بها الحامية طوال مدة الحصار, ترك فيها على الحضيض جثث ثلاث ضباط وعشرين جنديا

وكأن هذا الفوز الجزئي بعث حمية البوير فاحتدمت مدفعيتهم تقصف حتى المستشفيات ,وحتى مخيم النساء, تخرق كل قوانين الحرب, ولا تحفظ لشيء حرمة, مما حدا ببادن باول إلى رفع صوته بالاحتجاج الشديد, لأنه كان قد اطلع البوير على مواقع هذه الأماكن, على مخطط للمدينة أرسله إليهم منذ بدء الحصار

وقامت, مع طول الحصار, مشاكل الإعاشة والتموين تنذر بالويل , واحتجز بادن باول كل ما في المدينة من أغذية ومؤن, وأعلن نظام التقنين والبطاقات, يسري على الكبير والصغير دون لين, ودون استثناء, لا النساء والأطفال فقد خصهم بحصص أوفر من السكر والحليب

ونظم كذلك المرافق العامة, فحشد لها الأولاد, من سن العاشرة وما فوق, دربهم على القيام بها, يضطلعون بشتى المهام, ينوبون فيها مناب الرجال وقد انصرفوا جميعا إلى عمليات الحماية والدفاع, فكانت,بين الأولاد فرقة الدراجات يسعون عليها لحمل الرسائل والبلاغات, وكانت فرقة الترفيه تنظم ملاهي الأحد في حفلات ألعاب وموسيقى وتمثيل, فكانوا يقومون بما يكلفون به أحسن قيام, وقد راقتهم المسؤولية التي ألقيت على عاتقهم, وشاقهم النظام الجديد الذي انخرطوا فيه

هي إحدى الخطوات المباركة التي ستقود بادن باول يوما إلى حركة الطلائع الكشفية

وتحولت رحى الحرب, في شباط وآذار, إلى حصون المدينة الشرقية, فكانت المعارك حولها سجالا, يتنقل الظفر فيها بين المعسكرين, دون أن تقع المعركة الحاسمة, إلا أن وجه الحرب, مع ذلك اخذ يتغير, وأخذت هزائم البريطانيين الأولى تنقلب انتصارات في كل الميادين, ففك حصار كمبرلة, ثم لاوسميت, واستسلم كرونجه, وتقدم بلومر أشواطا في سيره الحثيث نحو مافكنج, واستطاع احد مساعديه أن يتسلل من خلال خطوط البوير إلى قلب المدينة المحاصرة, حيث اتصل ببادن باول وأطلعه على تطورات الحرب الأخيرة, ثم نصح لبادن باول أن يخرج من المدينة من يستطيع من السكان تخفيفا من وطأة الضائقة الغذائية التي أخذت تجتاح الأهلي فاخرج منهم ألفا

إلا أن جيش بلومر اضطر إلى التراجع أمام قوى قادمة من البوير فكانت إمدادات جديدة تحت قيادة أيلوف ,انضمت إلى جيش سنمان المحاصر

ونشبت المعركة الحاسمة في 12 آذار ,إذ هاجم أيلوف من الغرب , بينما كان سنمان يسانده بهجوم أخر من الشرق,واستطاع رجال أيلوف أن يقتحموا الحصون, ويخترقوا خطوط الدفاع, ويدخلوا المدينة القديمة, ويلقوا فيها النار, ثم تابعوا زحفهم, حتى بلغوا المقر العام للشرطة فاسروا الكولونل هور وثمانية عشر من رجاله, وكان بادن باول أثناء ذلك في مرصده على السطح يراقب سير المعركة, فما كاد البوير يتغلغلون في المدينة حتى أصدر أوامره إلى فوج المأجور كودله بتطويق البوير الذين في المدينة, ليقطع عليهم طريق الرجعة, بينما أرسل فوجا أخر في هجوم معاكس ضد أيلوف, وهكذا تقطع حبل المهاجمين, ووقع أيلوف ذاته أسيرا مع عدد من جنوده, ثم جرد الأسرى من سلاحهم, واقتادتهم طلائع الفتيان تحت حراستهم إلى قلب المدينة

واليك ما كتب مراسل رويتر عن هذه المعركة:

كنت يومئذ بجانب بادن باول اشهد معه هجوم أيلوف, انه حقا لقائد الفذ, فلقد كان يعزم على أمر بسرعة, وينفذ بسرعة, ويرسل أوامره جلية واضحة, فلا تردد,ولا تذبذب, ولا اضطراب, ولقد رد على هجوم أيلوف بهجوم مثله ألقى فيه كل الاحتياطي إلى الميدان ,فأنقذ المدينة من كارثة واني لأرى في بادن باول كل صفات القائد فلديه الشجاعة والإقدام, وسرعة الخاطر, ومضاء العزيمة, وإصابة النظرة, وثبات المسعى

وعندما ادخلوا عليه أيلوف أسيرا بادره بالقول:

مساء الخير, يا ايلوف, لقد أتيت في ساعتك للعشاء وكأنك منه لعلى موعد سابق

وفي أثناء العشاء لم يعرض لهزيمة خصمه بكلمة, ولم يأت بينهما عن الحرب من ذكر

وفي اليوم ذاته بلغ بادن باول أن نجدات تحت قيادة ماهون في طريقها إليه, فكان يتتبع أخبار سيرها, ويستعد لمؤازرتها, بهجوم يشنه في أوانه, ولما اقتربت من المدينة, اصطدمت بقوات البوير المرابطة, فاشتبكت معها في القتال بينما خرجت حامية المدينة تساندها في هجوم عام, وهكذا نشبت أخيرا المعركة الفاصلة بين الجيشين, دار رحاها على قوى البوير, فشتت شملهم, وانفتحت المدينة, بعد حصار دام مائتين وعشرين يوما, تستقبل بأقواس النصر جيشها الظافر, الذي دخلها دخول الفاتحين الغزاة,

كان ذلك في السادس عشر من أيار عام 1900 وقد دام الحصار كما ذكرنا مائتين وعشرين يوما, أطلقت في أثنائه على المدينة عشرون ألف قذيفة مدفعية, وبلغ عدد الضحايا فيها, من قتلى وجرحى ومفقودين , ثمانمائة وثلاثة عشر محاربا ومدنيا

لنستمع الآن إلى ما قاله احد مراسلي الصحف, وقد دخل المدينة مع جيش ماهون:

كنا نرى, حيثما وقع نظرنا, أثار الهدم والتدمير ظاهرة للعيان في كل مكان, لا يخلو منها بيت, فمن فجوات فاغرة, ومن جدران متداعية ومن نوفذ محطمة, ومن حفر ,ومن ثغور, كان الحرب دارت رحاها داخل أسوار المدينة, ولقد أخذنا العجب كيف ظلت الحياة سائرة سيرها في وسط هذا الخراب والدمار

ولما تألبت الجموع في الساحة العامة, واصطفت وحدات الجيش, وأخذت الحامية أماكنها من ذلك الحشد, وفيه الإنكليز ,والهولاندي, والهندي, والعربي,والزنجي ,تلا القائد خطابا يوافق المقام, وفيما كان يتكلم كنت أتصفح الوجوه, وأتساءل: ” ما السر في صمود هؤلاء القوم, وهم من مختلف الجنسيات والشعوب, في حصار دام مائتي يوم ونيف ,تحت القنابل, في ضيق من المأكل والمشرب, وفي سهر من الليل والنهار؟

ما كانت الشجاعة وحدها لتكفي على الصمود ولا الذكاء وما كان البوير ,بعددهم وعتادهم, بعاجزين عن الاستيلاء على المدينة, متى أرادوا ,في هجوم عام يشنونه بكل قواهم على كل المواقع, فما كان ليصمد أمام حشدهم حامية , لماذا لم يثبتوا هذا الهجوم العام, الذي كان بادن باول يخشاه أكثر ما يخشى ويحسب له ألف حساب؟

ليس من جواب شاف على هذا السؤال فلربما خانتهم العزيمة وعازهم التنظيم والتدريب, ولربما توصل بادن باول بدهائه إلى تضليلهم, فلقد كان الحصار, من أوله إلى أخره, خدعة بارعة, كان فيها للمناورات والحيل والتمويه دورها الهام, برع فيها بادن باول كل البراعة,حتى ما يستطيع احد أن يجاريه في ميدانها, إلا انه لم يكن رجل حرب وحيل فحسب, بل كان رجلا ,بكل معنى الكلمة , ولقد استطاع, بما تحلى به من صفات العقل والقلب , أن يكسب محبة الجنود والأهالي, فوضعوا فيه ثقتهم, وقبلوا بكل ما طلب منهم من تضحيات وجهود ، بذلوها رضين”

..السكان كما انه اوهن معنويات البوير, وأرخى من عزائمهم, وفت من عضدهم, فلقد قامت مافكنج حصنا منيعا أوقف جيشا كبيرا من العدو, وشغله, وحال دون تغلغله في روديسيا ونجوانالاند, كما أنها قامت منارة ساطعة في ظلمة الانكسارات العديدة التي مني بها الإنكليز في أول الحرب, وانهالت الرسائل عليه من كل صوب, وكان أحبها إليه رسائل الشباب يطرون بطلهم المحبوب, ويطلبون منه النصائح, فكأنهم شعروا أنهم واجدون به رجلا يفهمهم, ويحقق أمالهم, ويكون لهم يوما اكبر صديق ,واكبر محسن

 

هذا جوابه لأحد نوادي الشباب:

“لا تقصروا جهودكم على مكافحة بعض عادات السوء ,بل اسعوا سعيا وراء الخير, اعني أن تعطفوا على الغير, وتخففوا من كربته, فتؤدون الخدمات لم تعرفون ولمن لا تعرفون, وتغيثون كل من يقصدكم, بحاجة, وليس ذلك بالصعب, وأسهل الطرق لذلك أن تأخذوا نفوسكم بعمل صالح واحد تقومون به كل يوم, فتتأصل هكذا فيكم عادة حميدة, تلازمكم الحياة كلها, ولا يصير أن تكون الخدمة تافهة, والعمل وضيعا كأن تهرعوا إلى عجوز تريد عبور الشارع, أو تهيؤا للدفاع عن صيت احدهم تنهشه الألسن فالمهم أن تقوموا بعمل ما صالح مهما كانت قيمته

وهذه أيضا مرحلة جديدة ,سيكون لها ما بعدها في سبيل إنشاء طلائع الكشاف

 

About Author

عن ahmed

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*