الرئيسية 8 الموسوعة الكشفية 8 الحركة الكشفية 8 بادن باول الجندي والكشاف … الجزء الخامس

بادن باول الجندي والكشاف … الجزء الخامس

الشرطة الأفريقية

دخلت الآن حرب البوير في طورها الثالث والأخير, فلقد بدأت بطور الحصارات, بحصار مافكنج وغيرها من المدن ثم جاء طور التقلص والاندحار مني بها البوير في كل الميادين, وبدأ أخيرا طور العصابات, يديرها القائد دي فت من مكامنه المنيعة في الجبال, ولسوف تدوم هذه المرحلة الأخيرة من الحرب زمنا ليس بقصير ,لن يستتب بعده الأمن والنظام إلا بالتدريج على مراحل, وبتدابير حكيمة رشيدة ,في حكم رفيق عادل

وكان أهم هذه التدابير إنشاء قوة بوليسية تصرف الجهود على تنظيمها وتدريبها ,لتقوم بما يتطلب منها من حفظ السكينة, وتوطيد الأمن وإعادة الثقة

أنها لفكرة رائعة خطرت لحاكم أفريقيا الجنوبية, فأرسل يسأل السير روبرتس عن الرجل الجدير بالقيام بها فأجابه:

“لا أرى إلا بادن باول, انه لها, فهو يتحلى بالصفات اللازمة ويتمتع بالشعبية الواسعة, وله من المقدرة على التنظيم ,ومن معرفة البلاد ومن العزم والحزم, ما يكسبه ثقة الآهلين, ومحبتهم, ويضمن لمساعيه النجاح”

ووقع الاختيار عليه فأعفى من قيادة جيشه لينصرف بكليته إلى المهمة الجديدة التي أنيطت به

رأى بادن باول أول الأمر أن يشد مسافرا إلى الكاب للتشاور مع الحاكم العام صاحب الفكرة واخذ وهو في طريقه إليه بعمل الفكرة في موضوعه, يقلبه إلى كل وجه, حسب عادته, حتى جاء الحاكم العام وفي جعبته من الدراسات والخطط والتصميم, مالا يترك زيادة لمستزيد, وهو على طرقته المعروفة, يبني نظرياته على الواقع, على خبرته الطويلة للبلاد على معرفته الواسعة للرجال

وكتب في هذا الشأن يقول:

” لقد سررت كل السرور لهذه المهمة, لأني قديم العهد بإفريقيا الجنوبية ,ولي فيها أصدقاء عديدون من البوير ولقد شق علي كثيرا أن نلتحم معهم في حرب ضارية, أما الآن فعلي أن أسعى لإعادة الوئام والسلام إلى البلاد, فأصلح ما سببه الحرب من شر .. ومسنا من ضغائن فأكون مع الجميع على أحسن حال, وطيب صلات

وكانت الجماهير تحتشد حيث يمر قطاره, لتعرب لبطل مافكنج عن شعورها نحوه, وكان الاستقبال له في مدينة بريتوريا رائعا, أما الكاب, عاصمة المستعمرة, فكان أثناء ذلك تتهيأ لاستقباله , تقيم معالم الزينة وتعد المهرجانات وقد زحفت الجماهير الغفيرة لاستقباله تملأ خطة والشوارع المجاورة, تتماوج وتهدر كالبحر, فما أن وقف القطار حتى بادرت الجموع إلى بادن باول وحملته, وسارت به في موكب الفاتحين ,بين الهتافات الحماسية تشق عنان السماء إلى قصر الحاكم

لن تكون مثل هذه المهرجانات الشعبية نادرة في حياته فلسوف يشاهد منها ما لم يشاهد احد غيره مثلها, ولسوف تكون الأربعون سنة المقبلة سلسلة من المهرجانات والأعياد يقوم بها الشباب في كل أقطار العالم إشادة بفضله ,واعترافا بجميله

انه لم يكن ليسعى إليها سعيا, ويتهافت عليها تهافتا, كغيره من طلاب المجد, لأبل كان يتحاشاها جهده, لكنه لم يكن ليزهد بها, أو يرفضها إذا ما اتته عفوا, بل كان يتقبلها بوجه طلق, باش, يفيض إشراقا وأنسا

وبعدما أقام مدة في الكاب يتحدث مع ذوي الشأن عن مهمته انفرد بضعة أيام في دار صديق له خارج المدينة, يدرس الخطط, التي نال المرافقة عليها, درسا مفصلا, يختار لها الوسائل والأساليب, ويطبقها في برنامج للعمل دقيق واف, ولقد كان عليه أن يخترع, ويستنبط ويحتال, ما استطاع ,قياما بمهمة جديدة شاقة لم يسبقه إليه احد , وليس له فيها من طرق سالكة معبدة,فتحها له غيره, يسير هو عليها أمنا مطمئنا, فهناك قضايا التطوع, والعرفاء, والتجهيز, والمواصلات, والذخيرة ,والمؤن والخيل والتدريب و المالية والتطبيب,والخدمات, وغيرها مما يتفرع منها م الملحقات والأذيال, وعليه أن يضع لكل ذلك الأنظمة ويهيئ الأسباب ويسعى إلى الوسائل وكان عليه أولا أن يجمع حوله عددا من الضباط يعتمد عليهم فوجه انضاره لأول وهلة إلى هؤلاء الذين دربهم على أساليبه  في فوج مافكنج, إلا أن حرب البوير لم تنته بعد, وقيادة الجيش لا تستطيع أن تستغني الآن عنهم

وكان في شتلنبوش معسكر للتأديب يحال إليه من الضباط من ارتكب ذنبا, أو اقترف إثما, أثناء الحرب فأرسل بادن باول يطلب بعضهم ولم يندم فيما بعد على استخدامه لمثل هؤلاء فهو يعرف أن لكل جواد كبوة, ولكل رجل عثرة, وان أفضل وسيلة للأصلح أن تعاد الثقة وتتاح الفرصة للتعويض والتكفير

ثم اخذ يسعى للحصول على مطلوبة من الرجال, فلقد كان يود أن يتقدم إليه منهم الشباب, من الذين ينوون أن يستقروا في لبلاد, ويبنوا ويؤلفوا الجاليات العامرة والمواطنين

وأملا  بالحصول على مثل هؤلاء أرسل نداءه إلى أقطار الإمبراطورية البريطانية كلها

ولم يتأخر الجواب: شبانا كاما انتظر, وثقوا باسمه, فأتوه من كل أطراف الإمبراطورية ومنهم الموظفون, والعمال, والفلاحون, انظموا جميعا بحماسة تحت رايته

وباشر بادن باول العمل فاتخذ مركزه في مدينة مادرفونتان, بين بريتوريا وجوهنسبرغ  واخذ يطبق في التدريب أساليبه المعهودة ,وتلك التي سنصبح يوما أساليب الكشفية ذاتها

أساليب ,حجر الزاوية فيها الفصيلة, يكلف العريف فيها: بستة أو سبعة من رفاقه, يكون هو مسؤولا عن تدريبهم, وتقام المباريات, ويحمي التنافس بين الأفراد والفصائل مما يدعوا إلى تنمية الشخصية وبعث الهمم

ورفض بادن باول رفضا باتا أن يفتح أبواب التطوع  للجنود القدماء, قائلا أنهم قد درجوا على عادات ليس للاجتهاد الشخصي فيها من دور كبير ,فأصبحوا كآلة صماء لا ينقادون إلا للأوامر القاطعة المفصلة التي لا تترك من مجال لا لذات اليمين ولا لذات الشمال ,بينما هو بحاجة إلى شبان أذكياء يفهمون من وراء الأوامر غايتها, ومن بعد الحرف روحه, فيعملون, لذكاءهم في شتى الظروف والطوارئ ليشقوا فيها طريقهم إلى الهدف

ولهذا فانه لم ينج من النقد والتهجم, استهدف لهما منذ البدء وما هو يكتب يوما إلى إحدى أمهات الجرائد في لندن الجواب التالي:

لفت نظري في جريدتكم مقالة عن شرطة أفريقيا الجنوبية, التي أقوم الآن بتكوينها وتنظيمها, ولقد أخذتني الدهشة لمعلومات توردها المقالة عنا ليست بصحيحة, كما وليست مما يرفع من شأننا في أعين القراء, فلقد شحنت بالاغلاط والمغالطات, ولابد من القول بان شروطنا للتطوع لا تزال هي منذ شرعنا في العمل ,ومع ذلك فالتطوع سائر سيره, دون مشقة, والطلبات تنهال علينا من كل جانب, حتى أننا لم نستطع أن نقبل إلا واحد من ستة يطلبون التطوع, وسيتم لنا في أواخر أيار تنشئة وتدريب

عندما استدعاه الملك إلى قصره لير بن صدره بالوسام, كانت البلاد كلها تلهج باسمه, وقد أعدت له استقبالات في مدن عديدة كان عليه أن يمر بها في طريقه إلى لندن كم سر الملك عندما بلغه أن بادن باول قد تهرب منها كلها, بسلوكه طريقا أخرى مما يدل على انه كان رجلا متواضعا بمقدار ما كان رجلا شجاعا

ولما عاد بعد العطلة إلى أفريقيا, وقد اختصر عطلته ما استطاع كانت أعماله قد بدأت تأتي بثمارها, فأقام شبكة من مراكز الشرطة في كل نواحي البلاد, وقام بنفسه بجولة تفتيش عليها جميعها, قطع فيها ألاف الكيلومترات, طوال اشهر عديدة, لا ينام ليلتين متتابعتين على فراش واحد

ولما عقد الصلح في حزيران 1902 كان بادن باول قد أنهى مهمته, وأخذت الشرطة التي ألفها ونظمها تقوم بعملها المطلوب, على الأساليب التي تمرست فيها على يده بحيث أنفسح المجال أمامه لأعمال غيرها تنتظره

لم يطل الأمر ببادن باول حتى عهد إليه بمهمة مفتش عام للخيالة فقبلها واستقل من الشرطة وقد أتم فيها على قوله أهم عمل في حياته وانه حقا لأهم عمل عسكري قام به , لكنه سيقوم في السنين المقبلة بما هو أعظم منه شأنا وأهمية

وقبل أن نختم هذا الفصل نورد شهادتين من رؤسائه عن هذه الفترة من حياته  احدهما لتشمبرين , قالها في مجلس العموم

“إن الشرطة ,التي عمل بادن باول على تأليفها وتنظيمها قامت بواجبها العسكري أحسن قيام, دون إن تهمل واجبا أخر القي أيضا على عاتقها :إلا وهو تصفية الحرب: وتهدئة الخواطر وإعادة الأمن والسلام”

والشهادة الأخرى هي للورد ملتر ,وما أجملها من شهادة قال:

” إن نجاح مهمة الشرطة السلمية ليفوق كل نجاح, حتى ليشعر المرء انه في بلد لم يعد لأسباب الخلاف والاضطراب فيه من وجود”

مفتش الخيالة

لئن يتوصل بادن باول وهو بعد في السادسة والأربعين من عمره إلى مرتبة مفتش عام للخيالة, فذلك ما ليس بالأمر اليسير لمثله فان لم يتخرج في مدرسة للخيالة, ولم يتدرج في مرقي هذا السلك إلا انه وان فآته ذلك المدارس الرسمية, فهو لم يفته التمرس الطويل, والخبرة الواسعة, وسعة الإطلاع,اكتسبها في سبع وعشرين سنة من حياة عسكرية مثالية فقد يطوف البلاد ويجوب أقطار الإمبراطورية الشاسعة من الهند إلى أفريقيا إلى إنكلترا فكأنه كان يتهيأ لهذه المهمة ويعد لها العدة, فكانت له فيها أراء ونظريات, وابتكارات, شرحها لأولياء الشأن, مدة حية فألفت الدرس حرب البوير واستخراج منها ما جاءت به من عبر ذكرت في تقريره

لمن الأهمية بمكان أن تعهد إلى ضابط بمسؤولية وتلقى على أهم المسؤوليات في سن مبكرة منذ مباشرتهم خدمة ليتولوا هم قيادة وحدة التي قاموا على رأسها مهما كانت صغيرة  وليعدو أنفسهم      علها حاملين تبعة إخفاقهم ونجاحهم

علينا أن نبعث فيهم روح الإقدام بأساليب تقوم على الجد الشخصي والتنافس حتى لا يشبوا خاملين متكلين على أوامر رؤسائهم يحتمون بها, ويتهربون وراءها من كل مسؤولية إذ تكفيهم مؤونة الجهد

ما إذ تدرب الضباط والجنود على استخدام ذكائهم, يعودون عليه في الطوارئ والصعاب, فان الرؤساء لن يجدوا من ضرر في منحهم, لتنفيذ الأوامر, مجالا أرحب للاجتهاد الشخصي ,ولسعي الخاص, فيأمنون الأخطاء التي لا بدا أن تصدر عن التقييد بالأوامر تقيدا أعمى لا تفهم فيه ولا إدراك

وما إن صدر مرسوم تعيينه في هذه المهمة الخطيرة, في مستهل عام 1902حتى شمر عن ساعده جد,يسعى للإحاطة بالموضوع من كل أطرافه, حتى لا تفوته من دقائق فائتة, ولذلك فقد رأى أن يبدأ بزيارة أهم مدارس الخيالة في العالم, ليستعيض بالملاحظة ولينظر عما فآته من معلومات الكتب ودروس المدارس, فيسافر إلى ألمانيا, والى الولايات المتحدة وكندا والنمسا وروسيا في كل من هذه البلاد مدارسها العليا للخيالة ويلاحظ ويقارن, ويشخص ويجمع ..فيساعده عن سنين من دروس ومطالعات وقد فيه بنوع خاص النظام السائد في مدرسة فرنسا وفي سومور فلقد وجد مجتمع واسع شامل فهو لا يقتصر في العلوم المتعلقة بالخيالة, بل يتعداها إلى ثقافة عامة تشمل علوم الاستكشاف والدورات التدرج واستراتيجية  والتكتيك وغيرها مما له صلة قريب أو بعيدة

أما التفتيش ,فقد سار فيه على طريق جديدة, وأساليب شخصية, لم تجر عليها العادة فيما سبق , فكان, عندما يزور فوجا من الخيالة لا يعير بالا للمظاهرات والاستعراضات, التي تقام لمثل هذه الظروف, يقضون وقتا طويلا في تهيئة أسبابها, على غير ما فائدة كبيرة نجنى منها, بل كان يمضي مع الفوج بضعة أيام يعيشها معه كأحد أفراده يدرس فيها عن كثب عمل الضباط, وعمل الجنود في حياتهم العادية اليومية, ولا يدخر وسعا في تشجيع كل بادرة شخصية, وكل خطوة مبتكرة, في سبيل بعث النشاط في الجنود, وإنهاض الهمم, ومضاعفة الجهود, وكان يهتم بكل ما يتعلق بحياة الجندي, في شتى حالات قيامهم وقعودهم, فكانت تقاريره للمراجع العسكرية العليا تعج بالملاحظات عن حالة الثكنات والمباني, كما كتب يوما عن إحدى الثكنات يقول:

” لا تزال الثكنة على ما كانت عليه سابقا من سوء الحال, أما الجديد فيها ,فهو أن احد المطابخ فيها قد انهار..”

وأسس في عام 1904 مدرسة للخيالة في نترافون, وأصدر” مجلة الخيالة”

وقام في عام 1906 بجولة تفتيش في أفريقيا الجنوبية ,قادته فيها خطاه إلى مافكنج وغيرها من ميادين جهاده المجيد, وفي طريق عودته إلى إنكلترا مر بإفريقيا البرتغالية,وأفريقيا الألمانية الشرقية, وكندا, وأفريقيا البريطانية الشرقية, وزنجبار, توجه إلى عدن والبحر الأحمر لمصر حيث قام بتفتيش خيالتها

وفي عام 1907 أصدر كتابه:” صور ورسوم من مافكنج وأفريقيا الشرقية”

انه مجموعة طريفة من رسوم يده, نقل إليها بعض مشاهد الطبيعة والإنسان والحيوان في أجمل مظاهرها, فهناك الملاحظة الدقيقة, واللمحة الخاطفة, والتأثر العميق, والحركة, والسكنة, وكل ما ينم عن الحياة, مع شيء من المرح العابث, والسخرية الناعمة, والعطف والجنان

وان كتاب الرسوم هذا ليطلعنا أيضا على مدى ثقافته العامة, وشدة ميله إلى المعرفة, فلقد كان يدرس كل بلد يزوره, درس عيان واختبار, ثم درس كتب ومطالعة, بحيث يلم بماضيه وحاضره, واقتصادياته و امكاناته, مااستطاع, حتى إذا كتب له احد الشبان يستشيره عن الطريق التي يسلك في المستقبل- وكانت مثل هذه الرسائل تنهال عليه من كل صوب – أجابه بما يعرف عن البلاد,موجها أنظاره إلى الأفاق البعيدة حاثا إياه على طلب الرزق هناك, حيث مجالات النشاط أوسع وسبل العيش أرحب

وصدرت له كتب غيره بعدها ..ذكر أسفاره العديدة وعلى صف البلاد التي أقام فيها وقتا بمهمة ما أوزارها زيارة عابرة وهو في طريقه إلى غيرها, أنها كتب متنوعة تحمل كلها طابعه الخاص من الملاحظات الدقيقة ,والنظر البعيدة والإطلاع الواسع

وانتهت مهمته في منتصف 1907

واخذ يتساءل:” هل يترك الجيش ليقف نفسه على الحركة الكشفية التي بدأت تشغله؟ إلا انه لم يحن الأوان بعد لان يعتزل الخدمة تماما, فها رئيس الأركان يدعوه إلى تقلد مهمة الإشراف العام على التدريب الحربي لفرق جيش الدفاع الوطني

وقبل المهمة, اخذ يضطلع بها بما عرف به من إخلاص وهمة

ونشر أثناء ذلك كتابه الأشهر “الطلائع ” ضمنه آراءه واختباراته عن حركة الطلائع التي خرجت من الجيش إلى العامة فأخذت طرقها تتوضح لديه, وأساليبها تنتظم, وفكرتها تنتشر, تروق الشبيبة, وتعزو عالمها عزوا

ولما استدعاه الملك ادوار ليقلده صليب فكتوري ,إقرارا بتحميله في إنشاء حركة الطلائع, جرى الحديث بينهما عن مستقبل هذه الحركة فأشار عليه الملك بان يقف كل أوقاته على تنظيم  حركة الكشفية ونشرها بين الشبيبة, وهكذا قدم بادن باول استقالته من وظيفته في الجيش ,في 31 يار 1910 فكتب إليه القائد العام معلقا على كتاب استقالته:

” لقد خسرك الجيش لكن ليس من خدمة تستطيع أن تقدمها للبلاد اجل من الكشفية”

وأجاب بادن باول بكلمة رائعة هي برنامج حياته, وعنوان مجده:

” لم اخلق لأكون قائدا فلقد كان أحب إلي أن أكون ضابطا بسيطا في فوج, أعيش فيه مع الرجال على اتصال شخصي دائم”

 

لقد شق عليه أن يعتزل الخدمة في الجيش إلا انه لم ينفصل عنه كليا, إذ عين قائد شرف للفوج الثالث عشر للخيالة, وكان قائدا الفوج أثناء الحرب الكبرى, على اتصال به دائم, يطلعه برسائل طويلة على أخبار الفوج وأعماله, وكانت زياراته له في الجبهة متواصلة تلقى كل سرور وترحيب  

 

 

عهد التنظيم

ما كل حركة تنتشر سريعا بالحركة التي تثبت طويلا فقد تكون كنار الهشيم, تشتعل سريعا ذاهبة بالسنتها الصافية إلى عنان السماء, وتنطفئ سريعا مخلفة وراءها البرد والظلمة, بعد ما نشرت فيما حولها النار والنور

أما الكشفية فقد انتشرت سريعا كما لم تنتشر حركة مثلها, إلا أن انتشارها لم يكن من عمل الظروف ولا من عمل الحماسة ولا من عمل الهوس, مما لا يثبت معه أمر طويلا, لم يكن انتشارها مصطنعا زائفا غاشا, خدعة من خدع الأيام, كالموجة الطاغية الجارفة لا تلبث أن تنكسر على الصخرة وتنحسر

كان انتشار الكشفية ظاهرة من النمو الطبيعي كغرسة فنية قوية في تربة صالحة, تتدفق أغصانها وأوراقها وثمارا  في حيوية دافقة

وليس بادل على هذه الحيوية من التنظيم الذي سير النمو, وسهر عليه, ووفر له أسباب الصحة,وليس بادل على هذه الحيوية من أن التنظيم لم يقتل الشخصية, كما قد يخشى في البنية الضعيفة, بل أنماها وهداها السبيل ,ووقاها العثرات  لأنه قام على مبدأ الحرية وفترك المجال للشخصية تسعى سعيها, وتنمو نموها ,في ميدانه, وترك الحرية للنشاط الشخصي يبتكر ابتكاراته, ويتفتق حيلا, وأساليب ونظرات ,وتجارب

بدأ بادن باول بتنظيم حركته منذ عام 1909 ,إذ كان بعد في الجيش, إلا انه لم يخلق لها نظامها النهائي الذي تتمشى عليه إلى اليوم إلا في السنة التالية, حينما اعتزل الخدمة في الجيش وتفرغ لشؤون الحركة متصرفا إليها بكليته فسار بها في سبيل التنظيم الإداري أشواطها الحاسمة

وجاء التنظيم الأخير في خطوطه الأساسية بعد شتى المحاولات والتجارب على الصورة التالية:

يقوم على الحركة الكشفية في مستواها الأعلى, مجلس تنفيذي يرئسه بادن باول ,يضم من الشخصيات من أتوا في الرعيل الأول, فذهبت لهم في الكشفية شهرة, وكانت لهم فيها نضال ومات, أمثال السر هربرت بلرمر والسر ادمون وسير ويرنت واولك ده بور وايفرث واللويس ثم يأتي دونه مجلس للمقاطعات ثم مجلس للمفوضين المحليين

ثم يأت هذا التنظيم قيد يكبل الحريات لان جلهم المنظمة أن ترك للإدارات المحلية ولرؤساء الفرق وللكشافين أنفسهم أوسع مجالات, يكونون فيها أنشطة  همة وأوسع حية , وأطلق سرحا, لان الكشفية بدأت روحا وحركة قبل أن تكون مؤسسة ومنظمة وضلت روحا وحركة حتى دخل حدود التنظيم, وفي نطاقه فلم تظع الإدارة يوما على الروح, ولم تخلق الممارسات المقررة المزايا الشخصية تتفق عن الابتكارات والحيل

أما الطرق العسكرية المخطئة فلم يرد بادن باول رغم إلحاح بعض الضباط, أن يدخلها في الكشفية فلقد تأكد له بعد خبرة أربع وثلاثين سنة أن ليس لها في الكشفية مثل مالها في الجندية من ضرورة ومن فائدة بل بالعكس فهي تميت الاجتهاد الذاتي وتقتل الشخصية وتطفئ جذوة الحماسة, فلا يكون الشاب له بها خلقا متينا, ورجولية حقة والفتى الذي شب عليها وحدها, لن يجد فيه ميلا إلى ممارسة غيرها من أنواع النشاط الحي, والغاية من الكشفية أن تقرب الفتى من الطبيعة لا أن تجعل منه نسخة من الجندي

وكما حاذر بادن باول في حركته طرق الجندية وأساليبها حاذر أيضا طرق الرياضة وأساليبها, فقد أدرك بثاقب فكره أن الرئيس أو المتدرب في الكشفية ليس له من الاختصاص في الرياضة ومن التمرس في اساليبها ما يؤهله لان يقوم فيها معلما في فرقته, فهو يجهل منها أصولها, كما يجهل طبيعة جسم الفتى وقوانين نموه وقد يتهور بالفتى فيها, فيسبب له من الأضرار الجسمية من حيث لا يدري وقد حذر بادن باول المدربين في الكشفية من التمادي في أعماله الرياضة البدنية, من سير شاق على الإقدام مدى ساعات ومن جولات بعيدة على الدرجات, ومن ألعاب طويلة عنيفة, مما لا قبل للفتى بمثله , وحسبه من الرياضة البدنية ما سهل ونفع  من خمس أو ست حركات بسيطة تمارس كل يوم, ومن ألعاب قد درست, بتفاصيلها تقوم بها الفرق في العراء ومن مخيمات توفرت فيها أسباب الصحة واختبر لها الأمكنة الملائمة, ومن سير معتدل, ومن تسلق الأشجار , ومن سباحة محدودة إلى غيرها  هنالك من ضروب الرياضة التي هي من وضع الطبيعة ووحيها وليس من وضع الإنسان ووحيه

لقد اختط بادن باول إذا لحركته طريقا جديدا خاصا بعيدا على السواء عن المنظمات العسكرية وعن المنظمات الرياضية فهي لا تمت إلى هذه أو إلى تلك, إلا بصلات عارضة ليست منها من الصميم والجوهر

ما كاد بادن باول يتم عمل التنظيم , وينشئ الدوائر ويؤلف اللجان , حتى فسح المجال للآلة الإدارية طرقة تعمل عملها, لا يقحم نفسه كغيره من الرؤساء , في الكبيرة والصغيرة ولا يحل قضية من القضايا الناشئة إلا بعد التداول فيها مع ذوي الشأن , حتى يضطلع  كل فرد بمهامه, ويتحمل مسؤولياته, ويقوم بدوره

وكان عليه أن يزور مختلف الفرق الكشفية, بدعوة منها أو بدون دعوة, يتفقد شؤونها ويسهر على سيرها فكان دائما على الطرقات يتجشم إليها الأسفار ويقطع المسافات الطويلة جوالة لا تفتر له ولا يثنيه تعب

ولم تكن زياراته للفرق لتقتصر على الرسميات والحفلات, تلقى فيها الخطب, وترتفع الهتافات,وتستعرض الفضائل, لم يكن لبادن باول من مهرب من مثل هذه الرسميات تستقبل بها شخصية شعبية كشخصية إلا أنها كانت تنقلب معه دائما إلى زيارات إفادة ونفع وبناء من اتصال وتعارف تتوثق بهما, الروابط بين الرؤساء والمرؤسين ومن تفتيش دقيق شامل لا تفوته فيه فائتة ولا تخفى خافية, من حسنات وسيئات فيهي بالحسنات, من فكرة جديدة, أو عمل مبتكر, ومشروع طريف ويدل على السيئات ,مشيرا على مواطن الضعف والتقصير بيد رئيفة حليمة لا توجع بقدر ما تصلح وتوجه وتشجع

وقادته أسفاره إلى خارج بريطانيا, إلى حيث قامت فرقة من الكشفية على طريقته, وقد رأى في روسيا من سير بعض فرقها ما دعاه إلى التفكير الطويل والكتابة الطويلة أيضا, عن روح الكشفية وجوهرها

ولبث ما رأى في زيارته لفرقة من الفتيان مدرسة الإشراف في موسكوا :

أحاط بي موظفوا المدرسة ومعلموها يتحدثون معي في موضوع الكشفية وتابعنا الحديث ونحن على المائدة, وكانوا كلهم في زنهم الرسمية , بالسيوف, والشارات, والأوسمة, واخذوا منذ أوائل العداء يملأون لضيوفهم كؤوس الشرب وكأنهم يريدون أن يطبحل برشدهم أنها ظاهرة مألوفة من الضيافة الروسية الكريمة

وتبع ذلك العرض العام, وكان على أحسن ما يرام من الدقة والتنظيم, لم تقع العين منه على هفوة او شائنة وتبع زيارة المهاجع وعلى راس كل مهجع منها ضابط ,فكانت هي أيضا على أحسن ما يرام من الترتيب والنظافة ,وكان القانون سائدا بكل شدته وجبروته على كل مناحي الحياة في المدرسة, أما اللعب فلم يكن ليسمح له بوجود ولا المرح والعبث وغيرهما من أسباب الترفيه, وكان الخوف والطاعة أكثر ما يرد الكلام عليه في الإرشادات, ولا غروا فهما ركيزتا النظام السائد وعماده ومع ذلك فلقد شعرت أن هؤلاء الفتيان ليزخرون بقوى الشباب وبحماسة الشباب إنما ليس لهم من يطلقها من قيودها, ويرسلها في سبيلها من الحياة, أنها قوى كامنة مكبوتة, ليس لها إلى الخارج والى الحياة من منفذ انه نظام عسكري بحت ليس له من الكشفية الحقة إلا بعض الظواهر دون الروح أما الصورة التي أتمثل بها ذلك النظام فهي صورة راكب الدراجة البخارية, انه يحاول أن يسير بدراجته بواسطة الأرجل الخارجية وحدها, بينما القوى الكامنة في الآلة تستطيع, لو استعملها أن تسير بالدراجة من الداخل أحسن سير وبعده

وكان في المحطة فرقة من الكشافين الروس أتت لتودعني, لقد كانت وقفة دون حرك  جامدة كالأصنام  لكنني كنت اشعر باستعرضهم والحياة تزخر في النفوس تلمع  في العيون, في النظرات, البراقة الملتهبة, ..حية ذلك المشهد كل تأثير حتى أني ما تممت من العودة على أعقابي ..وخذته أصافحهم واحد واحدا, وما كدت ابلغ أخرهم حتى حماستهم في أصوت نطقت منهم فجأة من الصدور وبطرفة أحاط بي جميعهم من كل جانب واخذوا يزاحمون على مد يدي ولثم ثيابي, وامتدت الأيدي إلى الجيوب تخرج منها كل ما تعثر عليه, لتقدمه لي للذكرى, إنها حماسة الشباب طغت على كل الحدود وجرفت كل السدود, تستجيب للنداء, وان كان النداء أتاهم من غريب أجنبي,

إن الحادث لذو مغزى وأننا لمعرضون كثيرا لي مثله, ميالون إلى الأخذ بروحه فلنحاذر أن ننحو هذا النحو في تربية الشبيبة , أن ننزلق يفرقنا هذا الانزلاق إلى الجندية فالقانون الذي نكره على حفظه أكراها يحدث من الانفجار مالا يحدث مثله القانون الذي نقبل عليه عن رضي والعبرة في ذلك أسوقها فيما يلي:قائلا: ليس نظام الجندية بالوسيلة الفضلى لتكوين المواطن الجديد, ولن يستطيع شعب أن يحكم نفسه إلا إذا دأب أولا على تربية نفسه”

ومن روسيا رحل في صيف 1910 مستصحبا معه هذه المرة فصيلتين من الكشافة, إلى كندا والولايات المتحدة , وكانت الحركة قد انتشرت فيهما على يد وليم لويس الصحفي المعروف الذي التقى يوما, وهو في لندن, بأحد الكشافين فأعجبته هيئته, وأعجبته أكثر ما رأى من تضحيته وتفانيه, اخذ بمجامع قلبه, ولما عاد إلى الولايات المتحدة تزود إليها بكتاب الطلائع ,والأخبار الكثيرة عن كل ما رأى وسمع في لندن عن الكشفية فكان أول من بشر بالحركة الجديدة في بلاده

وأقيمت لبادن باول في الولايات المتحدة حفلات عديدة تعرف فها إلى أركان الكشفية ودعائمها في الولايات المتحدة ..

الحركة اكتسب لها بها أعوانا ومناصرين, أخذت تسير بهم جنبا إلى الأمام

هذا كان شأن بادن باول في رحلاته إلا انه لم يكتسب لحركته في بلد من معاونين مثلما اكتسب لها في إنكلترا ” لقد رأينا الملك أدور السابع يبدي لبادن باول كل تشجيع ,ويعرض عليه كل مساعدة ,وقد رفعه إلى طبقة الإشراف بلقب لورد, كما وزين صدره بالأوسمة الرفيعة

ولما جاء بعده جورج الخامس سار على منواله في تحبيذا الحركة وتشجيع صاحبها, وفي 4 حزيران 1911 أقيم في حديقة وندسور ” رالي ” ضم ثلاثين ألفا من الطلائع شهده  الملك بذاته, ولقد اعجب الحضور يومئذ بطريقة التجمع ابتكرها بادن باول,كان لها اروع الوقع, في

فبينما كانوا في القديم يقفون وقفة الأصنام, في صفوف طويلة متراصة, ينتظرون أن يعرضهم المستعرض, إذا بهم اليوم متوارين عن العيان, وقد اختبأوا على مسافة من مكان العرض مؤلفين دائرة عظيمة في البعيد, وما إن أرسل البوق صرخته حتى هجموا هجومهم المحترف, متدفقين من كل جانب, مرسلين الصيحات الضارية, إلى أن يبغوا إلى حيث يريدون فوقفوا في طرفة عين, وقفة رجل واحد, انه ليثير الحماسة ويلهب الشعور

ومن مناصري الحركة البارزين يأتي, بعد الملك اللورد كتشنر , فلنسمعه يقول في “رالي” – و”لراني” هو مخيم يشترك فيه عدد من الفرق الكشفية :” أن حركة الطلائع تزيل بين الطبقات كل السدود, وتحي روح الإخوة والصداقة, وروح النظام والقانون, والمواهب الشخصية ,والثقة بالنفس, والتجارب بين البشر واني اتركها لكم كلمة لتنقسوها على صفحات القلوب, كونوا الآن , وكل أوان,كشافين ولسوف تخبرون طوال حياتكم ما لدستور الكشاف من فوائد واني لأنصحكم بان لا تتركوا الكشفية تنقلب يوما بين أيديكم لعبة قديمة بالية”

والشخصية الثالثة هي اللورد روز بري , فنسمعه هو أيضا يقول في مخيم “رالي”:

” إنكم لا تنحازون إلى السياسة, ولا إلى الجيش, أنكم جمعية مستقلة بأنظمتها وأهدافها, أنها نشأت لتأخذ بالمبادئ السامية التي هي الخدمة للذات وللغير, والوطنية,والاستقامة, والشرف, والإيمان, والواجب  هذا جل ما يتطلبه منكم دستوركم, وهو بذلك يزينكم بالأخلاق الرفيعة وإذا ما كانت لي أمنية أتمناها لوطني, فهي أن يقوم له رجال قد نشأوا وتدربوا على الأساليب الكشفية أن امة تنجب مثل هؤلاء الرجال لتقدم إلى العالم أعظم خدمة وتوليه اكبر شرف

وسرت موجه الإعجاب هذه من المقامات الرفيعة إلى طبقات الشعب, إلى الصحف, التي هي لسان الشعب, وهناك ما يقوله  الصحفي ولسن: ” لقد اخذ نرى فجأة في شورعنا ضربا من الفتيان يختلفون كل الاختلاف عما عهدناه من قبل, من صبان الأزقة الملاعبين, ذوي الحيل والخدع, والتسكع والسيكارة, انه لفتى ذو القبعة العريضة, والركبة العارية, والقامة الهيفا, والألعاب الشيقة, انه الكشاف كم أحبه”

لم يكن كل ما قيل وكتب عن الكشفية مديحا وثناء, فلقد كانت هناك فئة من الناس مناوئة بعضهم يتهمون الكشفية بالروح العسكرية, وبعضهم بالروح الانهزامية المسالمة, والكشفية من كليهما براء, وأنها لحملة شعواء ظالمة شنتها بعض الأوساط عليها وعلى صاحبها, ناعتينه بالرجل الخرف الذي عاد إلى طور الطفولة, وناعتيتها بالحركة الصبيانية السخيفة التي تقوم على ألعاب ومعابث من الأوهام والأكاذيب والحيل, فان هي إلا نار الهشيم, وفقاعة الصابون, لن تلبث. حينما تخمد الحماسة المصطنعة التي ولدتها, أن تضمحل وتتلاشى ,وتصبح أثرا بعد عين

ولم يكن بادن باول ليعير مثل هذه الاتهامات أذنا صاغية, ولم يكن ليكلف نفسه عناء الإجابة عليها, أنها تهدم بعضها بعضا, وأنها الحركة الكشفية ذاتها تسير سيرها الظافر, تحقق اهدفها التربوية الرفيعة لأفضل جواب يفحم كل متحايل جائر

لكنه كان يكتب كثيرا عن الكشفية, يشرح ويوضح ويوجه وينير فكان لابد له في سباق حديثه عن الكشفية أن يعرض لمثل هذه المزاعم الواهية بجملة عابرة ليس ليفندها ويدحضها في جدل عقيم ,بل ليرسم مرة أخرى, وجه الكشفية الحقيقي, وهاك المثل على ذلك :

” يقولون أن روح الكشفية هي روح عسكرية حربية, ويقولون أيضا أنها روح انهزامية مسالمة, فمن من القولين نصدق؟ والحقيقة أن الكشفية تقوم على أسس خاصة, لا تمت إلى أي حزب من الأحزاب بصلة, أنها طريقة جديدة للتربية تسعى إلى مساعدة الوالدين والمعلمين في تنمية صفات الولد الأدبية والجسمية, مستخدمة لذلك أوقات فراغه, متوسلة إلى ذلك بوسائل شيقة في مجالات لعبة ومرحة, حتى تجعل منه رجلا سعيدا , ومواطنا صالحا.

أن ما ندعوا إليه من تعزيز روح الأخوة بين البشر, ومن التجارب بين الناس, لا يحول دون أن ينخرط الشاب يوما في سلك الجندية أو البحرية, في خدمة بلاده, كما أن ما نلجأ إليه من أساليب وطرق إنما ينمي في الشاب الشخصية القويمة, التي لا تتهرب من المسؤولية والتي سرعان ما تستجيب للواجب الوطني يوم يدعوه داعية

لم يقض بادن باول إذا وقته في الإجابة عن تهجمات الخصوم فلقد كان عليه من المهام المتزايدة ما يجعله في شغل شاغل عليها وكان عليه مع ما كان عليه من أمور كثيرة, أن يشرع في تنظيم حركة المرشدات المتنامية, وقد رأيناهن يبرزن فجأة إلى الوجود في “رالي” عام1909 فرأى أن لامناص له من الاهتمام بهن, ومن الحاقهن بحركته كفرع لها للفتيان

والتفت بادن باول يبحث فيما حول عن نساء يساعدنه في العمل ,فلجأ إلى أخته الييس, اسند إليها مهمة الإشراف على فرع المرشدات وتنظيمه, ورعايته, فأصدرت الييس عام 1912 كتابها الذي بعنوان ” كتاب المرشدات” جاء أساسا صالحا يبشر بغد مزدهر

إلا أن ضالته المنشودة وجدها حقا في الآنسة سومس, تلك التي سيطلق عليها يوما اسم “المرشدة الأولى” كما سيطلق على بادن باول اسم ” الكشاف الأول”

كان ذلك على ظهر الباخرة التي كانت تقله إلى الهند الغربية, والى باناما, في جولة استكشاف واسعة في أمريكا, وفي أقطار المستعمرات البريطانية ,وكانت الفتاة مع أبيها, وراق بادن باول ما رأى فيها, طوال أيام السفر, من رشاقة مع اتزان, ومن براعة مع ذوق, ومن مهارة في كل ما تأخذ, تمارس شتى الأعمال دون عناء, وتحسن الرياضة بأنواعها, كما تحسن تنظيم الحفلات, وإعداد البرامج, وإخراج التمثيليات, وتضافر بادن باول معها ,على ظهر الباخرة, في هذا الميدان, الذي هو ميدانه أيضا, وتباحث معها في موضوع الطلائع, وفي موضوع المرشدات, وفي غيره من مواضيع الحياة, فكانت لأراء فيها بينهما في كل هذه المواضيع على انسجام وتجانس, وعلى تجاوب تام

وعرض عليها بادن باول أن تساهم في حقل عمله في الكشفية ,فقبلت, وعرض عليها أن تشاركه مشاركة أوسع وأعمق, مشاركة حياة ,فقبلت  وكانت قد كتبت إلى أمها تقول:” ليس من شخصية بارزة على ظهر الباخرة كشخصية الجنرال بادن باول الكشاف الأول” …وفي وليمة العرس, التي احتفل بها في لندن, رفع الجنرال بوتار, رئيس وزراء أفريقيا الجنوبية كأسه على شرف العروسين قائلا: اشرب نخب تلك التي امتلكت الرجل الذي لم يستطع احد قبلها أن يمتلكه”

وكان لهذا الزواج أثره البعيد في حياة بادن باول, فاستقامت له أسباب العيش, واستطاع أن يتفرغ لشؤون الكشفية , تساعده امرأة قد سمت بها إلى مستواه, وصار له الآن بجانبه من يسهر على صحته, ويراقب عن كثب ما يبذل من جهود, ومن أوقات, في سبيل غاية تملكت قلبه, لان بادن باول كان من أولئك الذين لا تستهويهم غاية فيجندون لها, حتى تتملكهم, وتستبد بهم , وتستنفذ قواهم

واكتمل هناء الزوجين بما رزقهم الله من أولاد, فجاء بيتر عام 1913 وجاءت هيتي عام 1915 وجاءت بيتي عام 1917 إنها السعادة كما تمناها, أخذت ترفرف بجناحيها فوق بيته

ولكن.. لا تستبقن الحوادث ولنعد إلى حيث تركناها, في مجال الرحلات وفي أوائل عام 1913 قام بادن باول مع زوجته بجولة في الجزائر وقد أواد أن يتم هذه الجولة على شكل مخيم طيار , في جبال الصحراء, وهو أول مخيم تشترك معه فيه زوجته,وقد عاد منه كما يعود من كل مخيم, بأفكار جديدة, ومبتكرات طريفة, وأخبار اخذ يسردها على صفحات مجلة الكشاف وفيما يلي بعض ما ذكر عن مخيمه هذا في الجزائر قال:” اسقي على هذا المخيم , لقد ولى سريعا, لكن حصاده من الاختبارات والاكتشافات والفوائد كان وافر عميقا, وكانت امرأتي تدير المخيم كما لا تديره إلا المرشدة القديرة, وكنا نضحك معا, إذ تبادر في كل فرصة سانحة, لغسل القصاع والقدور, فكان الجلوة كانت تسليتها المفضلة تهرع إليها كلما سنحت سانحة, ولها فيها طريقة جديدة قد ابتكرتها وخبرتها في المخيم ,كانت تعمد إلى حفنة من الملح والى قضمة من الحشيش ,فإذا بالقدور تلمع نظافة ,وعقلت على ذلك بقولي: كم توفر على نفوسنا من المتاعب, ومن الأمراض, إذا ما صرفنا على أدوات المائدة مايلزم من العناية, وكانت امرأتي تستجيب ,بعد داعي الجلوة, داعي التجوال في أطراف المخيم, تصلح وترتب, تحرق قصاصات الورق, وتنظف وتزين ,وتسوي, كأحسن ما تكون ربة بيت في بيتها

وكانت الحدث الهام في السنة 1913 معرضا للأشغال اليدوية والفنية, أقيم في برمنجهام ,عرضت فيه ما أخرجته أيادي الكشافين من أشغال حققوها في ساعات الفراغ, ظهروا بها للناس بمظهر جديد كشف عن ناحية شائقة من نواحي نشاطهم, ودل على ما يمكن في كل فتى من مكانة ومقدرت يجب أن يتعهدها المربون بالعناية والاهتمام, حتى تخرج إلى حيز الوجود بثمارها الطيبة

الحرب الكبرى

طلع عام 1914 على الكشفية بأطيب الآمال, فلقد كانت في ازدهار مطرد, تسير من فتح إلى فتح, ومن بلد إلى بلد, تقطع المحيطات إلى أقصى المعمور لقد أصبحت حقا حركة عالمية

وتضاعفت الجهود في الإدارة المركزية لمتابعة التنظيم, ومسايرة التطور, فأصدرت المجلة الرسمية للحركة سلسلة من المقالات كتبها بادن باول لرؤساء والمدربين يمهد لهم فيها سبل الكشفية, ويبسط لهم أصولها, ويشرح لهم أساليبها, على أوضح منهج, واقرب سبيل ,وفي نيسان عقد الكشاف مؤتمرا هاما في مانشتر, جاء أثناء “رالي” ..وفي وسط مظاهرات كشفية رائعة وقد درس المؤتمر موضيع الساعة, وكان أهمها اثر الكشفية في التربية, الأسس الدينية والأدبية للحركة, نظام الأوسمة والشارات, شبان الطلائع الاكبرون وفي حزيران استعرضت الملكة اكسندر في لندن احد عشر ألفا من الطلائع بينما اشتركت الجراميز لأول مرة في “رالي” عام أقيم لهم ومن هم هؤلاء الجراميز؟

انه فرع جديد نبت في دوحة الحركة الكشفية ,جاء مظهرا رائعا من مظاهر حيويتها, فلقد اتخذت حياة الكشاف تستهوي الصغار من الإخوة, فصاروا يرافقون كبارهم إلى حيث يجتمعون, يختلطون بهم, ويدرجون على طرقهم, ويمارسون ما استطاعو نشاطهم, ولم ير المدربون أن يشددوا النكير عليهم, وان يقصوهم عن إخوتهم وعن الكشفية دون رحمة ,لم يطاوعهم قلبهم على ذلك, لكن الصغار ظلوا يزحفون من كل جانب, يتغلغلون بين الصفوف, يضايقون الطلائع بعددهم المتزايد, حتى لم يعد يوقف لهم تيار, وسرعان ما خطوا الخطوة الحاسمة, فصاروا يتزيون بزي الطلائع, يلبسون لباسهم, ويحملون شاراتهم, ويسيرون, أقزاما بعصي المردة, فكان منظرهم يثير الضحك ويدعو إلى السخرية, مما ينفر الفتيان عن الكشفية, ويصرفهم عنها إلى غيرها

وأمام هذا الزحف الكاسح من الإخوة الاصغرين لم ير الرؤساء بدا من تأليف فصائل خاصة بهم , ثم كتبوا إلى بادن باول يستفتونه في شأنهم يطلبون منه الإرشاد والتوجيه

وما كان ليغيب عن بادن باول أن موضوع الصغار من الأهمية بمكان, ولم يفته, أن التأخر في تقرير مصيرهم يعرض الكشفية ذاتها للبلبلة والاضطراب,فعزم على درس القضية وحلها بأسرع ما يمكن وفيها كان يكتب إلى رؤساء الفرق إلى متابعة تجاربهم في هذا الحقل وطالبا منهم أن يوافوه بالتقارير المفصلة عما اختبروا ,كان يتصل بكل من له رأي يبديه من معاونيه, ليكون له الفكرة الصحيحة في الموضوع, ينتهي بها إلى الحكم الفصل, إلى أن توفرت لديه الأسباب فكتب في كانون الأول من عام 1913 يقول:

” يجب أن يكون للاصغريين نظام خاص, ويجب أن يكون هذا النظام غاية في البساطة, فالأمر, على ما اعتقد, على جانب من الأهمية, ولي لأود أن أطلق على الفرع الجديد, اسما من الأسماء التالية: طلائع الصغار, والجراميز, أو الذئاب,أو غيرها من الأسماء التي لا تمت إلى المدرسة بصلة”

وما انتهت مدة الاختبار والتجربة, تتلمس المنظمة فيها طريقها إلى الحل السليم, حتى وضع السيد أيفر النظام المنشود للفرع الصغير نشرته مجلة الإدارة في كانون الثاني من عام 1914

إليك خطوط هذا النظام الكبرى: تحية ,وشارة – هي راس جرموز- ووعد بسيط للواجب والخدمة ,وفحوص بسيطة ملائمة لمن كان بين التاسعة والثانية عشر

وأصدر بادن باول بعد عامين كتابه” الجراميز” ضمنه كل ما يختص بالحركة ,فكان للصغار مثل ما كان كتاب “الطلائع” للكبار

أما الفكرة الوضاءة التي فتق له نبوغه بها, فهي حكاية ” موغلي” تلك الأسطورة الجميلة التي استقاها من “كتاب الغابة لكبلغ” والتي ألهمت فيما بعد كل ما سواها من حكايات الجراميز التربوية, بها استهوت الصغار لأنها تكلمت إليهم بلغتهم,  واتتهم بما يتلاءم مع سنهم وطباعهم, ولم يلبث الفرع الجديد أن انتشر في البلاد وما انتهت السنة حتى كان قد انخرط في سلكه أكثر من عشرة ألاف جرموز يرتدون البزة الخاصة بهم, التي تختلف عن بزة إخوانهم من الطلائع كل الاختلاف

ونشأت بعد مشكلة الصغار مشكلة الكبار والمشاكل علامة لحيوية والتقدم, ومشكلة الكبار هي هذه: ما مصير الشبان الذين يتجاوزون السادسة عشرة, والذين لم يعد لهم في الطلائع من مكان وقد دخل كثرهم ميدان العمل ,هل يتركون وشأنهم؟
كلا أجاب بادن باول, واخذ يعالج المسألة كما اعتاد مفكرا ,مستشيرا ,مختبرا

وما كاد يتصل إلى المرحلة الأولى من الحل ويباشر العمل حتى أتت الحرب فهدمت ما بدأ ببنيانه, وشتت  شمل الشبان, ولما أعيد البنيان بعد الحرب كان على نطاق أوسع, فجاء على ما تراه اليوم في فرع الجوالة

أما التجربة الأولى فكانت على شكل رابطة اسماها رابطة القدامى الطلائع” جعل لها ثلاث أهداف:

توطيد الصلات التي تربط الشبان ببعضهم, وثم تربطهم جميعا بالكشفية

تعزيز الروح الوطنية التي بداوا يتشربونها في الطلائع

استدراج من لم ينتسب يوما من الشبان إلى الحركة الكشفية لينضم إلى الجمعية الجديدة, فتتاح له الفرصة بذلك لخدمة بني أمته

وسارت الجمعية الجديدة, مدة حياتها القصيرة, على هذا المنوال , وأقامت أول مخيم لها في آذار, ثم نشبت الحرب, فتفرق الشبان في ميادينها ملبين داعي الواجب والوطني وتقوضت أركان الجمعية إلى أن انبعث بعد الحرب على شكلها الجديد

لم يكن خطر الحرب, الذي ما كان ليخفى على احد, ليخفف من نشاط بادن باول, واخذ يهتم بتوطيد دعائم المستقبل ,وكان لابد لذلك من إنشاء صندوق عام للحركة يضمن لها استقرار ويكفيها مؤونة السؤال وأرسل في أوائل العام نداء حار إلى مواطنيه أتاه بالعبارة التالي:

” إذا صعب عليك أن تنخرط في سلك الجمعية لتضطلع فيها ببعض المسؤوليات, فمد على الأقل يدك إليها بما يوازي ما تشعر به نحوها من عطف وتقدير , وإننا لنقول لك الآن ما يقوله قطاع الطرق للمسافرين: الكيس والحياة”

وطاف البلاد محاضرا, يستندي الأكف, ويكسب الأنصار, فجمع في مدة ستة اشهر مائة ألف جنيه, إلا انه توقف عن متابعة السعي عندما تشبت الحرب, فلقد قامت أمامه واجبات من نوع أخر ,هبت البلاد كلها لتلبية ندائها

وكتب بادن باول في مجلة الإدارة, عن الحرب ما يلي:

لقد أتت الحرب دليلا على أن الروابط التي تربط فيما بين الشعوب في عرض البحر, حيث كانت الحاجة إليهم اشد, ورسم أميرال السواحل الخطط ,وتطوع للعمل بموجبها ثلاثون ألفا من الطلائع, قاموا بخدمتهم فيما  منذ أب 1914 حتى آذار 1920

وقد قام بادن باول بتفتيش أكثر مراكز الخفر الساحلي, ولاشك انه شعر باعتزاز وفخر عندما لمس لمس اليد أن كشافته قد حققوا ما عقدت البلاد عليهم من أمال, وأنهم لجديرون بما أولتهم إياه السلطات من ثقة فكتب يصف ما شاهد:

” إنها لذكريات قديمة من جولات الاستكشاف الليلية, تثيرها اليوم في نفسي جولات مثلها على الساحل في دورية من الكشاف خفراء السواحل,

وانحدرنا إلى الساحل, سالكين إليه طرقا ملتوية وعرة, يضيع فيها من يطرقها الأول مرة, فكانوا يسيرون فيها سير عارف خبير لا يجهل من معالمها شيئا  ولاغرو فلقد كانت البرقية التي كانوا يقصدون بها صاحبها, تحمل رقم 1119 لقد سلكها, الدوريات الساحلية إذا أكثر من ألف مرة, تحمل الرسائل والبرقيات, في الشمس والمطر, في العواصف والزوابع, إلى أن تصل بها إلى الحاكم القاعدة البحرية في مقره

وفيما نحن سائرون أشار الدليل بيده إلى نافذة مضاءة في إحدى المزارع, توجهنا إليها على التو, وطرق الدليل لباب, وطلب من أصحاب المزرعة بأدب أن يتقيدوا  بأوامر التعتيم, ثم تابعنا طريقنا, بينما الدليل تخلف عنا قليلا ليشرف على تنفيذ الأوامر, انهل لتدابير حكيمة يتخذونها ,أنهم لم يكونوا ليألوا جهدا في فحص كل شيء والانتباه إلى كل شيء, والتحري من كل شيء

تعيش الفصيلة الساحلية أكثر الأوقات في بيوت من غرفتين أو ثلاث يقوم فيه الكشافون أنفسهم على شؤونهم, من طبخ وغيره, ويضع رئيس الدورية كل يوم تقريره للسلطات المختصة

واليك بعض ما ورد في مثل هذه التقارير

” حذرنا مدمرة من صخور كان الضباب يواريها عن العيان, رأينا طائرات على مسافة بضعة كيلومترات تتوجه إلى الجنوب الشرقي, فأبلغت السلطات أمرها, لغم عائم دلنا عليه احد قوراب الصيد … الخ ”

ورأيت فصيلة بدراجاتها لا تنفك رائحة غادية بالرسائل والبرقيات … إلى حاكم القاعدة البحرية ,ومنها إلى الصيادين, ولقد أخذني العجب من الطلائع يقومون بما أنيط بهم من أعمال, بمثل هذه الهمة والجدارة, وقد خلت مراكز عديدة  لخفر السواحل من ضباط وموظفين ,بحيث أن مقاليد  الأمور فيها كانت كلها بين أيدي الطلائع, فكان على رئيس الفصيلة, أن يأخذ من التدابير ما يرى ويسهر على سير الأمور, ويعني بالتغذية والإقامة, يوفرها لمن في معينة من الكشافين

رايتهم يقضون في المراكز الواحد, وفي المهمة  الواحدة, أسبوعا بعد أسبوع, وشهر بعد شهر دون أن يملوا العمل, أو ينال منهم نصب فكانت الوجوه تطفح بشرا وصحة يا للشباب, ما أعظم ما يستطيعون من أعمال, إذا ما وضعت فيهم الثقة ,وأثيرت فيهم الحمية “

وقد يتساءل بعضهم: لماذا لم يعهد إلى بادن باول وقت الحرب بقيادة جيش من الجيوش في ساحات القتال؟

والجواب على ذلك أتى به سكرتير وزارة الحربية بقوله:” انه لمن السهل أن نجد قوادا كثيرين أكفاء نعقد لهم اللواء على احد الجيوش لكن الطلائع, التي يديرها بادن باول ,لن نجد من يقوم مقامهم في ما يقدمون للوطن من خدمات”

وسرت زمن الحرب عن بادن باول, كما سرت عن غيره من الرجال العظام, شتى الإشاعات وهذه أطرفها:

برق يوما , احد محرري الصحف في نيورك يقول:” لقد شاعت هنا عنك أخبار غريبة, منها انك جاسوس وان قد زج بك في السجن, …كلمة منك , تطيرها لي على عجل تسد كل هذه الإشاعات وتفتح قلوب أصدقائك الكشافين:فأجاب بادن باول قائلا:

” لا يمكن أن يكون خير زجي في السجن صحيحا, إذ قد نفذ بي, منذ شهر على قول جريدة من شيكاغو- حكم الإعدام رميا بالرصاص ,بجرم التجسس وفي لا ادري, بحقيقة لحساب من أنا  أتجسس إنما ادري أني منصرف بكليتي إلى خدمة بريطانيا العضمى

انه حقا لكثير الأشغال, وهاهو يدخل ويدخل طلائعه معه حركة ” بيت الجندي” وقد ساهم مع طلائعه في إنشاء عدد من  إلى الجنرال الذي ابلغ تعليق على ما يبذله من الجهود في هذا السبيل : ”

” عزيزي آليي, في سعي في جمع المال لإنشاء “بيت الجندي” فرنسا ولقد انهالت علي الطلبات من كل جانب وعلي الآن أن على المواد اللازمة ,وان احصل أيضا على الأشخاص اللازمين, نساء ورجال, أضعهم على دائرة هذه البيوت, واني لأمس هنا كبيرا على هذا المشروع, وقد جئت أسألك وان  تضع خطط العمل إذا كنت بحاجة, للشتاء المقبل , لي مثل هذه البيوت, أنشئها لجيش ولي كم بيتا منها أنت بحاجة, وقد وجه الجيش الثاني لي طلبه منها لأسر جدا أن أقدم لك منها مثل ما أقدم لغيرك”

لم تلهه مثل هذه المهام العديدة عن مهمته الكبرى, وقد انفتح في الحرب أمام الطلائع ما افتح من مجالات للنشاط واسعة , لم تبق المرشدات ذاتهم بمنأى عنها فلقد قامت المرشدات كثير مما أتت به حرب  التحررية النسائية من أفواج و…تراخت بهما عن التقاليد لتنشد فأقبلت النساء يمارسن من الأعمال ما كان في حمى الرجل , .. بين فيه منابه لخدمة الأمة

لم تبق المرشدات إذا في غمرة هذا النشاط مكتوفي الأيدي  امرأة من طراز بادن باول, هي امرأة بادن باول, قامت على رأس حركتهن, رفعتها المرشدات ذاتهن إلى المقام الأول منها, فنظمت حركة المرشدات على غرار حركة الطلائع وجاء كتاب بادن باول عام 1917 مالئا للثغرة, مستكملا للبناء , لقد كان الكتاب “المرشدات” :هذا ما كان لسابقه كتاب ” الطلائع” من الأثر الدائم, كلاهما دستور الحركة الحامل لروحها, الضامن لمستقبلها

أعمال من الواقع اليومي كانت تتراكم عليه, دون أن تستنفذ, مع ذلك قواه, فلقد لا ينفك , حتى في حمى العمل وفي حمى الأشغال يدرس ويفكر ويقترح وهذا اقتراح من اقتراحاته يقدمه إلى السيد ايفرت, يدعمه ببراهينه, وأدلته, مما يدل على انه قد أشبعه درسا , انه يقترح أن تنشأ كفاءة خاصة بأبناء الريف, مع شاراتها وممارساتها تحت اسم: حامي العصفور ,فيقول:

” علينا إذا أن نفتح أعين ابن الريف على الطبيعة التي حوله يدرسها ويحبها, وعلى الحيوان يحبه ويحسن معاملته, وقد تكون حماية العصفور من أحب مجالات, نشاطه في الريف, واني لاقترح من تنشأ كفاءة باسم” حامي العصفور” ,ينالها الكشاف بعد امتحان ناجح في موضوعها, ويحمل شاراتها الخاصة, ريشة على قبعته, أنها ستكون له مجلبة للسرور, كما ستكون مدعاة لدرس الطبيعة درسا اكبر, وأننا بهذه الكفاءة لبالغون من الكشفية أهدافها الأساسية من تنمية الملاحظة والتمرس في الخير والرياضة في العراء والخدمة (إذ يحمي الكشاف العصفور) وتدريب الأيدي (إذ يصنع له الملاجئ)

وانتهت الحرب وقد حمل السلاح فيها مائة ألف من كشافين قدماء ورؤساء ومدربين, مات منهم عشرة ألاف في سبيل الوطن

واطل على العالم عهد جديد, اخذ أقطابه يعملون فيه على تشييد صرح للسلم دائم فهل للكشفية من دور في هذا العالم الجديد, ومن مساهمة في تشييد صرح السلم فيه؟

“الكشفية عامل السلام” هذا عنوان مقالة بادن باول كتبها في أواخر الحرب, قال فيها ما يلي:

“لقد هبت شعوب العالم تسعى لبناء سلم دائم على أسس وطيدة فلا المعاهدات – وقد لا تلبث أن تطرح كقصاصات ورق – ولا الضمانات المالية من ذهب وفضة, ولا غيرها من وسائل القمع والردع, لتصلح أداة السلم  ومادة لبقائه, فلا يبني السلم الدائم إلا الشعوب ذاتها, عواطف الشعوب , أرادة الشعوب, إيمان الشعوب , وان للكشفية هنا لدورا, فلقد ضمت شبابا من كل أقطار العالم ,وفي فروع وشعاب, تنتمي كلها إلى دوحة واحدة, واصل واحد, وليس مثلها لصهر شبيبة العالم في أخوة حقة, تشدها إلى بعضها البعض روابط من الصداقة متينة لا تجعل للخلافات, إذا ما نشأ منها بين الشعوب, من خطر على السلم ,طالما يعالجون حلها بروح الأخوة والتفاهم, وليس بروح البغضاء والشحناء

انه لحلم جميل حلم الأخوة العالمية, إلا أن بادن باول قد عاش هذا الحلم طوال حياته, يراه حقيقة تتحقق وليس نظرية في الألوف من شبيبة العالم

About Author

عن ahmed

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*