طلع عام 1914 على الكشفية بأطيب الآمال, فلقد كانت في ازدهار مطرد, تسير من فتح إلى فتح, ومن بلد إلى بلد, تقطع المحيطات إلى أقصى المعمور لقد أصبحت حقا حركة عالمية
وتضاعفت الجهود في الإدارة المركزية لمتابعة التنظيم, ومسايرة التطور, فأصدرت المجلة الرسمية للحركة سلسلة من المقالات كتبها بادن باول لرؤساء والمدربين يمهد لهم فيها سبل الكشفية, ويبسط لهم أصولها, ويشرح لهم أساليبها, على أوضح منهج, واقرب سبيل ,وفي نيسان عقد الكشاف مؤتمرا هاما في ما نشتر, جاء أثناء “رالي” ..وفي وسط مظاهرات كشفية رائعة وقد درس المؤتمر موضيع الساعة, وكان أهمها اثر الكشفية في التربية, الأسس الدينية والأدبية للحركة, نظام الأوسمة والشارات, شبان الطلائع الاكبرون وفي حزيران استعرضت الملكة اكسندر في لندن احد عشر ألفا من الطلائع بينما اشتركت الجراميز لأول مرة في “رالي” عام أقيم لهم ومن هم هؤلاء الجراميز؟
انه فرع جديد نبت في دوحة الحركة الكشفية ,جاء مظهرا رائعا من مظاهر حيويتها, فلقد اتخذت حياة الكشاف تستهوي الصغار من الإخوة, فصاروا يرافقون كبارهم إلى حيث يجتمعون, يختلطون بهم, ويدرجون على طرقهم, ويمارسون ما استطاعوا نشاطهم, ولم ير المدربون أن يشدوا النكير عليهم, وان يقصوهم عن إخوتهم وعن الكشفية دون رحمة ,لم يطاوعهم قلبهم على ذلك, لكن الصغار ظلوا يزحفون من كل جانب, يتغلغلون بين الصفوف, يضايقون الطلائع بعددهم المتزايد, حتى لم يعد يوقف لهم تيار, وسرعان ما خطوا الخطوة الحاسمة, فصاروا يتزيون بزي الطلائع, يلبسون لباسهم, ويحملون شاراتهم, ويسيرون, أقزاما بعصي المردة, فكان منظرهم يثير الضحك ويدعو إلى السخرية, مما ينفر الفتيان عن الكشفية, ويصرفهم عنها إلى غيرها
وأمام هذا الزحف الكاسح من الإخوة الاصغرين لم ير الرؤساء بدا من تأليف فصائل خاصة بهم , ثم كتبوا إلى بادن باول يستفتونه في شأنهم يطلبون منه الإرشاد والتوجيه
وما كان ليغيب عن بادن باول إن موضوع الصغار من الأهمية بمكان, ولم يفته, أن التأخر في تقرير مصيرهم يعرض الكشفية ذاتها للبلبلة والاضطراب,فعزم على درس القضية وحلها بأسرع ما يمكن وفيها كان يكتب إلى رؤساء الفرق إلى متابعة تجاربهم في هذا الحقل وطالبا منهم أن يوافوه بالتقارير المفصلة عما اختبروا ,كان يتصل بكل من له رأي يبديه من معاونيه, ليكون له الفكرة الصحيحة في الموضوع, ينتهي بها إلى الحكم الفصل, إلى أن توفرت لديه الأسباب فكتب في كانون الأول من عام 1913 يقول:
” يجب أن يكون للاصغريين نظام خاص, ويجب أن يكون هذا النظام غاية في البساطة, فالأمر, على ما اعتقد, على جانب من الأهمية, ولي لأود أن أطلق على الفرع الجديد, اسما من الأسماء التالية: طلائع الصغار, والجراميز, أو الذئاب,أو غيرها من الأسماء التي لا تمت إلى المدرسة بصلة”
وما انتهت مدة الاختبار والتجربة, تتلمس المنظمة فيها طريقها إلى الحل السليم, حتى وضع السيد أيفر النظام المنشود للفرع الصغير نشرته مجلة الإدارة في كانون الثاني من عام 1914
إليك خطوط هذا النظام الكبرى: تحية ,وشارة – هي راس جرموز- ووعد بسيط للواجب والخدمة ,وفحوص بسيطة ملائمة لمن كان بين التاسعة والثانية عشر
وأصدر بادن باول بعد عامين كتابه” الجراميز” ضمنه كل ما يختص بالحركة ,فكان للصغار مثل ما كان كتاب “الطلائع” للكبار
أما الفكرة الوضاءة التي فتق له نبوغه بها, فهي حكاية ” موغلي” تلك الأسطورة الجميلة التي استقاها من “كتاب الغابة لكبلغ” والتي ألهمت فيما بعد كل ما سواها من حكايات الجراميز التربوية, بها استهوت الصغار لأنها تكلمت إليهم بلغتهم, واتتهم بما يتلاءم مع سنهم وطباعهم, ولم يلبث الفرع الجديد أن انتشر في البلاد وما انتهت السنة حتى كان قد انخرط في سلكه أكثر من عشرة ألاف جرموز يرتدون البزة الخاصة بهم, التي تختلف عن بزة إخوانهم من الطلائع كل الاختلاف
ونشأت بعد مشكلة الصغار مشكلة الكبار والمشاكل علامة لحيوية والتقدم, ومشكلة الكبار هي هذه: ما مصير الشبان الذين يتجاوزون السادسة عشرة, والذين لم يعد لهم في الطلائع من مكان وقد دخل كثرهم ميدان العمل ,هل يتركون وشأنهم؟
كلا أجاب بادن باول, واخذ يعالج المسألة كما اعتاد مفكرا ,مستشيرا ,مختبرا
وما كاد يتصل إلى المرحلة الأولى من الحل ويباشر العمل حتى أتت الحرب فهدمت ما بدأ ببنيانه, وشتت شمل الشبان, ولما أعيد البنيان بعد الحرب كان على نطاق أوسع, فجاء على ما تراه اليوم في فرع الجوالة
أما التجربة الأولى فكانت على شكل رابطة اسماها رابطة القدامى الطلائع” جعل لها ثلاث أهداف:
توطيد الصلات التي تربط الشبان ببعضهم, وثم تربطهم جميعا بالكشفية
تعزيز الروح الوطنية التي بداوا يتشربونها في الطلائع
استدراج من لم ينتسب يوما من الشبان إلى الحركة الكشفية لينضم إلى الجمعية الجديدة, فتتاح له الفرصة بذلك لخدمة بني أمته
وسارت الجمعية الجديدة, مدة حياتها القصيرة, على هذا المنوال , وأقامت أول مخيم لها في آذار, ثم نشبت الحرب, فتفرق الشبان في ميادينها ملبين داعي الواجب والوطني وتقوضت أركان الجمعية إلى أن انبعث بعد الحرب على شكلها الجديد
لم يكن خطر الحرب, الذي ما كان ليخفى على احد, ليخفف من نشاط بادن باول, واخذ يهتم بتوطيد دعائم المستقبل ,وكان لابد لذلك من إنشاء صندوق عام للحركة يضمن لها استقرار ويكفيها مؤونة السؤال وأرسل في أوائل العام نداء حار إلى مواطنيه اتهاه بالعبارة التالي:
” إذا صعب عليك أن تنخرط في سلك الجمعية لتضطلع فيها ببعض المسؤوليات, فمد على الأقل يدك إليها بما يوازي ما تشعر به نحوها من عطف وتقدير , وإننا لنقول لك الآن ما يقوله قطاع الطرق للمسافرين: الكيس والحياة”
وطاف البلاد محاضرا, يستندي الأكف, ويكسب الأنصار, فجمع في مدة ستة اشهر مائة ألف جنيه, إلا انه توقف عن متابعة السعي عندما تشبت الحرب, فلقد قامت أمامه واجبات من نوع أخر ,هبت البلاد كلها لتلبية ندائها
وكتب بادن باول في مجلة الإدارة, عن الحرب ما يلي:
لقد أتت الحرب دليلا على أن الروابط التي تربط فيما بين الشعوب في عرض البحر, حيث كانت الحاجة إليهم اشد, ورسم أميرال السواحل الخطط ,وتطوع للعمل بموجبها ثلاثون ألفا من الطلائع, قاموا بخدمتهم فيما منذ أب 1914 حتى آذار 1920
وقد قام بادن باول بتفتيش أكثر مراكز الخفر الساحلي, ولاشك انه شعر باعتزاز وفخر عندما لمس لمس اليد أن كشافته قد حققوا ما عقدت البلاد عليهم من أمال, وأنهم لجديرون بما أولتهم إياه السلطات من ثقة فكتب يصف ما شاهد:
” إنها لذكريات قديمة من جولات الاستكشاف الليلية, تثيرها اليوم في نفسي جولات مثلها على الساحل في دورية من الكشاف خفراء السواحل,
وانحدرنا إلى الساحل, سالكين إليه طرقا ملتوية وعرة, يضيع فيها من يطرقها الأول مرة, فكانوا يسيرون فيها سير عارف خبير لا يجهل من معالمها شيئا ولاغرو فلقد كانت البرقية التي كانوا يقصدون بها صاحبها, تحمل رقم 1119 لقد سلكها, الدوريات الساحلية إذا أكثر من ألف مرة, تحمل الرسائل والبرقيات, في الشمس والمطر, في العواصف والزوابع, إلى أن تصل بها إلى الحاكم القاعدة البحرية في مقره
وفيما نحن سائرون أشار الدليل بيده إلى نافذة مضاءة في إحدى المزارع, توجهنا إليها على التو, وطرق الدليل لباب, وطلب من أصحاب المزرعة بأدب أن يتقيدوا بأوامر التعتيم, ثم تابعنا طريقنا, بينما الدليل تخلف عنا قليلا ليشرف على تنفيذ الأوامر, إنها لتدابير حكيمة يتخذونها ,إنهم لم يكونوا ليألوا جهدا في فحص كل شيء والانتباه إلى كل شيء, والتحري من كل شيء
تعيش الفصيلة الساحلية أكثر الأوقات في بيوت من غرفتين أو ثلاث يقوم فيه الكشافون أنفسهم على شؤونهم, من طبخ وغيره, ويضع رئيس الدورية كل يوم تقريره للسلطات المختصة
واليك بعض ما ورد في مثل هذه التقارير
” حذرنا مدمرة من صخور كان الضباب يواريها عن العيان, رأينا طائرات على مسافة بضعة كيلومترات تتوجه إلى الجنوب الشرقي, فأبلغت السلطات أمرها, لغم عائم دلنا عليه احد قوراب الصيد … الخ ”
ورأيت فصيلة بدراجاتها لا تنفك رائحة غادية بالرسائل والبرقيات … إلى حاكم القاعدة البحرية ,ومنها إلى الصيادين, ولقد أخذني العجب من الطلائع يقومون بما أنيط بهم من أعمال, بمثل هذه الهمة والجدارة, وقد خلت مراكز عديدة لخفر السواحل من ضباط وموظفين ,بحيث أن مقاليد الأمور فيها كانت كلها بين أيدي الطلائع, فكان على رئيس الفصيلة, أن يأخذ من التدابير ما يرى ويسهر على سير الأمور, ويعني بالتغذية والإقامة, يوفرها لمن في معينة من الكشافين
رايتهم يقضون في المراكز الواحد, وفي المهمة الواحدة, أسبوعا بعد أسبوع, وشهر بعد شهر دون ان يملوا العمل, أو ينال منهم نصب فكانت الوجوه تطفح بشرا وصحة يا للشباب, ما أعظم ما يستطيعون من أعمال, إذا ما وضعت فيهم الثقة ,وأثيرت فيهم الحمية “
وقد يتساءل بعضهم: لماذا لم يعهد إلى بادن باول وقت الحرب بقيادة جيش من الجيوش في ساحات القتال؟
والجواب على ذلك أتى به سكرتير وزارة الحربية بقوله:” انه لمن السهل أن نجد قوادا كثيرين أكفاء نعقد لهم اللواء على احد الجيوش لكن الطلائع, التي يديرها بادن باول ,لن نجد من يقوم مقامهم في ما يقدمون للوطن من خدمات”
وسرت زمن الحرب عن بادن باول, كما سرت عن غيره من الرجال العظام, شتى الإشاعات وهذه أطرفها:
برق يوما , احد محرري الصحف في نيورك يقول:” لقد شاعت هنا عنك أخبار غريبة, منها انك جاسوس وان قد زج بك في السجن, …كلمة منك , تطيرها لي على عجل تسد كل هذه الإشاعات وتفتح قلوب أصدقائك الكشافين:فأجاب بادن باول قائلا:
” لا يمكن أن يكون خير زجي في السجن صحيحا, إذ قد نفذ بي, منذ شهر على قول جريدة من شيكاغو- حكم الإعدام رميا بالرصاص ,بجرم التجسس وفي لا ادري, بحقيقة لحساب من أنا أتجسس إنما ادري أني منصرف بكليتي إلى خدمة بريطانيا العضمى
انه حقا لكثير الإشغال, وهاهو يدخل ويدخل طلائعه معه حركة ” بيت الجندي” وقد ساهم مع طلائعه في إنشاء عدد من إلى الجنرال الذي ابلغ تعليق على ما يبذله من الجهود في هذا السبيل : ”
” عزيزي آليي, في سعي في جمع المال لإنشاء “بيت الجندي” فرنسا ولقد انهالت علي الطلبات من كل جانب وعلي الآن أن على المواد اللازمة ,وان احصل أيضا على الأشخاص اللازمين, نساء ورجال, أضعهم على دائرة هذه البيوت, واني لأمس هنا كبيرا على هذا المشروع, وقد جئت أسألك وان تضع خطط العمل إذا كنت بحاجة, للشتاء المقبل , لي مثل هذه البيوت, أنشئها لجيش ولي كم بيتا منها أنت بحاجة, وقد وجه الجيش الثاني لي طلبه منها لأسر جدا أن أقدم لك منها مثل ما أقدم لغيرك”
لم تلهه مثل هذه المهام العديدة عن مهمته الكبرى, وقد انفتح في الحرب أمام الطلائع ما افتح من مجالات للنشاط واسعة , لم تبق المرشدات ذاتهم بمنأى عنها فلقد قامت المرشدات كثير مما أتت به حرب التحررية النسائية من أفواج و…تراخت بهما عن التقاليد لتنشد فأقبلت النساء يمارسن من الأعمال ما كان في حمى الرجل , .. بين فيه منابه لخدمة الأمة
لم تبق المرشدات إذا في غمرة هذا النشاط مكتوفي الأيدي امرأة من طراز بادن باول, هي امرأة بادن باول, قامت على رأس حركتهن, رفعتها المرشدات ذاتهن إلى المقام الأول منها, فنظمت حركة المرشدات على غرار حركة الطلائع وجاء كتاب بادن باول عام 1917 مالئا للثغرة, مستكملا للبناء , لقد كان الكتاب “المرشدات” :هذا ما كان لسابقه كتاب ” الطلائع” من الأثر الدائم, كلاهما دستور الحركة الحامل لروحها, الضامن لمستقبلها
أعمال من الواقع اليومي كانت تتراكم عليه, دون أن تستنفذ, مع ذلك قواه, فلقد لا ينفك , حتى في حمى العمل وفي حمى الأشغال يدرس ويفكر ويقترح وهذا اقتراح من اقتراحاته يقدمه إلى السيد ايفرت, يدعمه ببراهينه, وأدلته, مما يدل على انه قد أشبعه درسا , انه يقترح أن تنشأ كفاءة خاصة بأبناء الريف, مع شاراتها وممارساتها تحت اسم: حامي العصفور ,فيقول:
” علينا إذا أن نفتح أعين ابن الريف على الطبيعة التي حوله يدرسها ويحبها, وعلى الحيوان يحبه ويحسن معاملته, وقد تكون حماية العصفور من أحب مجالات, نشاطه في الريف, واني لاقترح من تنشأ كفاءة باسم” حامي العصفور” ,ينالها الكشاف بعد امتحان ناجح في موضوعها, ويحمل شاراتها الخاصة, ريشة على قبعته, أنها ستكون له مجلبة للسرور, كما ستكون مدعاة لدرس الطبيعة درسا اكبر, وأننا بهذه الكفاءة لبالغون من الكشفية أهدافها الأساسية من تنمية الملاحظة والتمرس في الخير والرياضة في العراء والخدمة (إذ يحمي الكشاف العصفور) وتدريب الأيدي (إذ يصنع له الملاجئ)
وانتهت الحرب وقد حمل السلاح فيها مائة ألف من كشافين قدماء ورؤساء ومدربين, مات منهم عشرة ألاف في سبيل الوطن
واطل على العالم عهد جديد, اخذ أقطابه يعملون فيه على تشييد صرح للسلم دائم فهل للكشفية من دور في هذا العالم الجديد, ومن مساهمة في تشييد صرح السلم فيه؟
“الكشفية عامل السلام” هذا عنوان مقالة بادن باول كتبها في أواخر الحرب, قال فيها ما يلي:
“لقد هبت شعوب العالم تسعى لبناء سلم دائم على أسس وطيدة فلا المعاهدات – وقد لا تلبث أن تطرح كقصاصات ورق – ولا الضمانات المالية من ذهب وفضة, ولا غيرها من وسائل القمع والردع, لتصلح أداة السلم ومادة لبقائه, فلا يبني السلم الدائم إلا الشعوب ذاتها, عواطف الشعوب , إرادة الشعوب, إيمان الشعوب , وان للكشفية هنا لدورا, فلقد ضمت شبابا من كل أقطار العالم ,وفي فروع وشعاب, تنتمي كلها إلى دوحة واحدة, واصل واحد, وليس مثلها لصهر شبيبة العالم في أخوة حقة, تشدها إلى بعضها البعض روابط من الصداقة متينة لا تجعل للخلافات, إذا ما نشأ منها بين الشعوب, من خطر على السلم ,طالما يعالجون حلها بروح الأخوة والتفاهم, وليس بروح البغضاء والشحناء
انه لحلم جميل حلم الأخوة العالمية, إلا أن بادن باول قد عاش هذا الحلم طوال حياته, يراه حقيقة تتحقق وليس نظرية في الألوف من شبيبة العالم